وطن بحجم الجيب / عبدالرحمن رشيد المومني

وطن بحجم الجيب

قال لصديقه ورفيق سكنه… (ضايل مثلثين جبنه… ادهن واحد على رغيفين الي والك واترك الثاني لبكره… لانه صاحب المطعم حكى كمان اربع ايام حتى نستلم راتب… وانا خليني ارد على ابوي).
بدأ صديقه بدهن الجبنه بمنتهى الحيطه والحذر من ان يفقد اي ذرة عالقه على “القصديره”… وكان يصل اليه صوت المكالمة كاملاً من تلفون النوكيا 3310… بداية من (شلونك يابه؟)… وصولاً الى المقطع المهم الذي سأل به الوالد (عاوز اشي يابه؟.. محتاج اشي؟).. ورد صديقه… (لا يابه ما بدي غير سلامتك… كل اموري تمام… ضلكوا ادعولي انت وامي الامتحانات الاسبوع الجاي)… وختمت المكالمة بالدعاء ووجوب الانتباه للدراسة وعدم (الهماله)… مع اصدقاء السوء.

مذهولا ممسكا بالرغيفين يقول.. (مهبول انت؟ ذبحنا الجوع النا اسبوع يا رجل وابوك بقلك عاوز اشي وبتحكيله امورك تمام… يا زم ما انت ماكل هوا… كان طلبتلك 20 دينار نتبغدد فيهن ونشتري كم علبة “طون”؟)
قال.. (ليس وضع ابي افضل من وضعي… وكل دينار سيبعثه لي سيقتطعه من قوت اخوتي… لو طلبت منه 100 دينار سيبعثها… لكني لن اضعه في هذا الموقف و ما سيتبع ذلك من هم وقلق ودين… ونحن فعلاً بخير… عملنا الجزئي في المطعم مع راتب المكرمة يجعل الامور تسير على خير… والحمد لله).

سادتي الوزراء والاعيان والأمناء وكل مسؤول في هذا الوطن… الشباب المذكورين في القصة تخرجوا مهندسين مميزين من الجامعه الاردنية التي رحلوا اليها من قراهم المنسية… وتخرجوا بامتياز ويشار لهم بالبنان في عملهم الآن… عملهم الذي يتم استغلالهم فيه والذي لا يأخذون فيه ما يكفي لفتح بيت او حتى لمساعدة آبائهم حق المساعدة. أعتقد انكم لن تجرؤوا على القول بأن هذا السرد مبالغ فيه لأن نصفكم يدعي انه مر بظروف اصعب من المذكوره اعلاه.

لذا… من ابسط قواعد الذكاء.. والسياسة… والأخلاق على اقل تقدير… أن لا يتبجح احد امامنا بشهادات ابناءه للأسباب التاليه… واطمأنوا…. لن اذكركم بدم الشهداء الذي لم يجف… ولن اذكركم بكل من بذل دمه في سبيل هذا الوطن….

أولاً:
لا اعلم لماذا كلمة (اعرق الجامعات)… تذكرني بحوارات المسنين الطيبين الجالسين في الدكانه على الكراسي المصنوعه من كراتين البيض. المهم… لو افترضنا ان ابنك سيادة الوزير مثلاً… درس في امريكا في جامعه عراقتها متوسطه… فانك ستحتاج ما مجموعه 200 الف دولار على أقل تقدير لمنحه شهادة البكالوريوس… اي انك (براتبك البالغ 3000 دينار كما تقولون)… تحتاج للعمل كوزير 4 سنوات مع ادخار كامل مرتبك دون ان تشتري باكيت شيبس واحد او علبة حلاوة… لكي تمنح ابنك شهادة البكالوريوس من جامعة متوسطة العرق… اسف.. اقصد العراقة.
انا لا اتهم احدا بالمال الغير مشروع لا سمح الله… فنحن لسنا شيوعيون… ونملك نظام الميراث (اذا لم تصدقوني انظروا لمناصب هذا الوطن)… واني اعلم انك قمت بتدريس ابنك من نتاج كرم الزيتون الذي ورثته عن ابيك… او ربما وهو الاكثر احتمالاً… ان ابنك كان مبعوثاً على حساب الدوله لدراسة البكالوريوس في اعرق الجامعات في امريكا لكونه في ترتيب اعلى من اوائل المملكة ولم يتم الاعلان عن اسمه مع قوائم الأوائل والمبتعثين وقتها خوفاً على ذكائه من الحسد.

ان والد الشاب في بداية القصة… (اطمأنوا… لن اتحدث عن شبابه وعمره وصحته التي بذلها جندياً ساهراً على هذا الوطن)… ان والد الشاب… اذا استطاع ايجاد اي وسيلة تمويل حلال… تعطيه المبلغ الكافي وتأخذ 90 بالمئة من راتبه التقاعدي الى الأبد… كان سيدرس ابنه في (اعرق الجامعات)… وكان سيرسل ابنه الى دول العالم كلها… ويعلمه 8 لغات ونصف… وكان سيعيش على القليل القليل المتبقي عيشة الكفاف بعزة نفس وفخر…
سأزيدكم من الشعر بيت… ان هذا هو ما يحدث فعلاً ليتمكنوا من تدريس ابنائهم في جامعات الوطن الحكومية.

باختصار… أتتبجحون بما صنعتموه من عرقنا و دمنا وعلى اطلال مستقبل ابنائنا ؟؟؟!!!!!!

ثانياً:
بالتطابق تماماً مع نظرية التحدي والاستجابة… عشرات الآلاف من ابناء هذا الوطن لم يستسلم لنظام التعليم الهش… لم يستسلم لنظام التعليم العالي المتهاوي… لم يستسلم لخدعة ديوان الخدمة التي اصبحت نكتة سمجة وسخيفه وخصوصاً بعد فكرة الامتحان التنافسي وما يحدث فعلاً فيه… عشرات الآلاف… بجهدهم المنفرد… استثمروا وقتهم وفقرهم بأنفسهم… اصبحوا مهندسين واطباء ومحامين واقتصاديين وسياسيين… منهم من فتح شركته الخاصة وخاض غمار الكفاح ونما وازدهر بعيداً عن ارض وطنه… ومنهم من وجد اناساً وعوالم يقدرون درجة ابداعه وتفوقه ونما في ارض خصبٌ ترابها… فأبناء سيادتكم بالملايين المنفقه عليهم ليسوا حالة نادرة… آلاف من ابناء هذا الوطن بجهدهم وفقرهم وعزتهم… يتحدثون 5 لغات… ولديهم مؤهلات تفوق ما يمكن ان تشتريه اموالكم.

وهناك عشرات الآلاف ايضاً… ممن قضى نحب احلامه… تحت نير ظلمكم ومحسوبياتكم وميراثكم… وقوانين الاستثمار وقوانين العمل النظرية ونكات ديوان الخدمة المدنية السخيفه… والعديد من المبكيات دماً في هذا الوطن.

منهم من قضى نحب احلامه… ومنهم من ينتظر…
فكفوا بربكم … واحذروا الحليم اذا غضب.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى