سارتر والفكر العربي المعاصر

سامح المحاريق om

سؤال الحرية المفتوح على المسؤولية والخوف

لم يتمكن أي فيلسوف آخر من مزاحمة سارتر لدى النخبة العربية، وكانت هذه وضعية لافتة بالفعل لدرجة دفعت بالروائي العراقي علي بدر لأن يطلق على واحدة من رواياته «بابا سارتر» لدور هذا الفيلسوف في صياغة المزاج الفكري العربي لفترة طويلة كانت ذروتها في الستينيات والسبعينيات، وكان لذلك أسباب موضوعية، يمكن أن تلخص فيما يلي: فأولا، اتخذ سارتر موقفا ايجابيا تجاه مسألة استقلال الجزائر، فالفرنسيون لم يكونوا يعتبرون الجزائر مستعمرة وإنما أرضا فرنسية وكانت التسمية المتداولة للجزائر هي فرنسا ما وراء البحار، وأتى موقف سارتر من المسألة الجزائرية ليمثل ثقلا كبيرا في أوساط النخبة الفرنسية ومنحه ذلك شعبية كبيرة في الدول العربية، وثانيا، استقبل سارتر بحفاوة بالغة في القاهرة في أذار 1967 برفقة سيمون دي بوفوار، وكانت التغطيات الصحفية الواسعة كفيلة بأن تجعله محطا لاهتمام المثقفين العرب، وكانت هذه الزيارة بناء على دعوة من الرئيس جمال عبد الناصر بعد أن رفض سارتر قبل ذلك مقابلة عبد الناصر بسبب وجود معتقلي رأي في السجون، وكانت نتيجة اللقاء أن أفرج عن الكثير من المثقفين المصريين ومنهم الشاعرين سيد حجاب وعبد الرحمن الأبنودي، وثالثا، تبنى سارتر فلسفة تنشغل بسؤال الحرية الإنسانية والمصير الذي يواجهه الإنسان المعاصر، وكانت الشعوب العربية تواقة للفكر الذي يناصر الحرية والإنسان، وعلى ذلك فإن سارتر الذي كان أصلا ظاهرة في فرنسا وبقية أوروبا، ألقى بظلاله على الفكر العربي كما لم يفعل أي مفكر أوروبي ربما منذ عصر أفلاطون وأرسطو.

يرصد هذا الكتاب ظاهرة سارتر في الفكر العربي، ابتداء من تأثيره الفلسفي الذي تمثل في انتشار الفلسفة الوجودية، وخاصة بعد أن قام عبد الرحمن بدوي بنشر الفكر الوجودي في مصر، ويصف مؤلف الكتاب الدكتور أحمد عبد الحليم عطية أن المثقفين العرب استقبلوا سارتر وفق تصور خاص بهم، يمكن أن يكون مختلفا إلى حد ما، أو حتى مختلف كثيرا عن الصورة التي كونها سارتر لدى الأوروبيين، فـ «سارتر العربي» كما يصفه عطية دائما ما كان يمثل صورة للضمير الإنساني وعاصفة على العصر، ويقدم لرأي الدكتور سهيل إدريس الذي رأى أن سارتر يعبر عن معاناة وهموم الشعوب العربية، فسارتر يعبر عن فرنسا المقاومة التي وقفت في وجه الاحتلال النازي وهو الأمر الذي عايشته الشعوب العربية بعد نكبة فلسطين وأثناء عصر التحرر من الاستعمار، وكانت الحاجة إلى السؤال الوجودي المتعلق بالحرية تشغل قطاعا واسعا من المثقفين العرب، خاصة بعد أن كان السؤال حول قدرتهم على العمل لإدارة بلدانهم وتحقيق التقدم، خاصة أن سارتر يقدم مفاهيما مثل الرعب من الحرية، وهو ما يمكن أن يوصف على المستوى الفردي والاجتماعي ككل.

لم يكن تأثير سارتر يتوقف على الفكر والفلسفة والسياسة، وإنما امتد أثره لمجال الأدب سواء في الكتابة الروائية أو الكتابة المسرحية، وكان الأثر الذي خلفه سارتر على الرواية العربية كبيرا، صحيح أنه لا يمكن أن يوصف بالمؤثر على تيارات الكتابة الجديدة أو الحساسية الجديدة في الرواية والأدب، إلا أنه جعل الروائيين يطرحون إشكاليات الإنسان المعاصر بصورة أكثر تماسا مع الواقع ومع الهواجس التي تثيرها الحياة المعاصرة، ولعل سارتر أثر كبير في خروج الرواية العربية من الجانب الوعظي أو حرصها على أن تكون ذات صبغة توجيهية، كما أنه أسهم في تحرير الرواية العربية من الواقعية الاشتراكية تجاه أن يطرح مشكلة الإنسان الفرد ومشاغله، هذا الأثر على الرواية لم يتمكن من فرض نفسه في مرحلة سارتر وإنما ترك أثره في مرحلة لاحقة، وفيما يتعلق بسارتر فإنه أديب ومفكر يمكن استعادته كثيرا وفي مراحل تاريخية كثيرة، ولعل المفصل التاريخي الذي يعايشه العالم العربي يستدعي سارتر ويطرحه بالضرورة فهذه التجربة التي تعايشها الشعوب العربية تكتسب المنحى الوجودي وتطرح نفس الأسئلة المتعلقة بالحرية والتي طرحت لأكثر من مرة دون أن تلقى الإجابة الصحيحة، هذا في حالة وجود مثل هذه الإجابة من الأساس.

يمكن أن يكون أثر سارتر مبالغا فيه وذلك لطبيعة الموضوعات الجدلية التي أثارها وحضوره الدائم كشخصية ثقافية عالمية، كما أن كثيرين أسسوا لفكرتهم عن سارتر بناء على مواقفه الإعلامية وتصريحاته وليس كتاباته الفلسفية التي تتسم بكثير من الصعوبة، كما أن تمرد سارتر على المؤسسات والسلطة التي تفرض على الأفراد بشكل عام جعله يحظى ببريق إضافي خاصة بعد أن رفض تسلم جائزة نوبل للآداب، ولكن سارتر الحقيقي يمكن تقييمه اليوم من خلال أعماله الفكرية والأدبية، الأمر الذي جعل الكتب التي تصدر عنه في أوروبا وفرنسا في السنوات الأخيرة تتعامل معه بموضوعية على خلاف حالات التأثر الواسع التي وصلت لمرحلة الانبهار أثناء حياته، أو الهجوم اللاذع التي تصدى له البعض بحثا عن الشهرة، ويمكن أن يصنف هذا الكتاب كمحاولة موضوعية لقراءة سارتر في العالم العربي، حيث أن سارتر أثار الكثير من الضجة بمواقفه وآرائه لدى قراء العربية ولكن قلة من النخبة فقط استطاعت الإطلاع على مشروعه الفكري من كتاباته المتخصصة وبالتالي أن تتعرف تحديدا على المكون الأساسي لأفكاره وطريقته الخاصة في النظر للأمور من منهجه أو طريقته في الفلسفة الوجودية، وليس كما جرت العادة أن يتم الإطلاع على مواقفه المعلنة أو التفسيرات لهذه المواقف من قبل نقاد متحمسين أو ساخطين.

الحنين إلى كاتالونيا

في الحرب الأهلية الأسبانية كان إقليم كاتالونيا في شمال شرق أسبانيا معقل الثوار الجمهوريين، وتدفق آلاف المتطوعين للالتحاق بصفوف الثورة الأسبانية في مواجهة الجنرال فرانكو الذي لقي دعما واسعا من هتلر في ألمانيا وموسوليني في فرنسا، وكان الأديب الإنجليزي جورج أورويل شاهدا على أحداث الحرب الأهلية في الفترة من 1936 ولغاية 1938، وكانت الجمهوريون الأسبان في غالبيتهم من الفوضويين أو الشيوعيين المناهضين لسياسات ستالين ولذلك لم يحظوا بدعم الاتحاد السوفييتي، إلا أن دول أوروبا الغربية لم تقدم أيضا الدعم الضروري لتمكينهم من التغلب على الجنرال فرانكو الذي تمكن من الحكم بصورة ديكتاتورية لسنوات طويلة بعد تمكنه من الانتصار على الجمهوريين، وفي هذه الرواية يقدم أورويل شهادة ودفاعا عن الثورة الأسبانية، وإن اعتبرت كأحد الأعمال الروائية لأورويل فهي أقرب إلى العمل التوثيقي الذي يرصد تجربة إنسانية، وهي تختلف بذلك عن روايات أدب الحرب التقليدية مثل وداعا أيها السلاح التي كتبها هيمنجواي بعد مشاركته في الحرب العالمية الثانية.

الترجمة الدقيقة لاسم الرواية هو المجد لكاتالونيا، ولا يقلل الاختلاف حول ترجمة عنوان العمل من الترجمة المتقنة التي أنجزها عبد الحميد الحسن وحساسيته لأحداث الرواية والكثير من أجوائها، وخاصة في وصف مدينة برشلونة وشعبها المسالم بينما يسيطر على المدينة العمال الذين حولوها إلى قاعدة خلفية للميلشيات المسلحة، ويروي أورويل تفاصيل الانتقال للجبهة وما يدور من تفاصيل في ذهن المقاتلين في مواجهة القوات الفاشية، وفي الرواية تحليل سياسي يتطرق لتفاصيل متعددة حول الحرب ودور العديد من الدول الأوروبية التي دخلت على خط الصراع، وكان المقصد الأساسي من وراء ذلك تقديم وجهة نظر أخرى بخصوص ثورة عمالية في بلد أوروبي يعتبر متخلفا قياسا بدول أوروبا الشمالية أو حتى جيرانه على ساحل المتوسط.

كان هذا العمل من أول الأعمال الأدبية التي صدرت عن الحرب الأهلية الأسبانية إلا أن هذه الحرب تحولت لاحقا إلى موضوع جرى تناوله بشكل واسع في الأدب الأوروبي وخاصة بعد رحيل فرانكو وديكتاتوريته وصدور العديد من الشهادات الأدبية حول تفاصيل هذه من الروائيين والشعراء الأسبان.

الأعمال الشعرية.. علوي الهاشمي

تماشيا مع رغبة والده توجه علوي الهاشمي إلى لندن ليدرس التجارة إلا أن شغفه بالشعر والأدب جعله يبحث عن طريقه من جديد، فيلتحق بدراسة الأدب العربي في جامعة بيروت العربية ويواصل دراسته للماجستير والدكتوراه في مصر وتونس، وعلى ذلك الأساس بدأت مسيرته الأكاديمية النوعية في الجامعات البحرينية، إلا أن الشعر بقي هاجسا مقيما لدى الهاشمي، فهو على قلة إنتاجه الشعري يعد واحدا من الأصوات المميزة في الشعر البحريني والخليجي بشكل عام، كما كان واحدا من الشعراء الذين أنجزوا شيئا يستحق التوقف والتأمل في ظل بقائه متمسكا بالتفعيلة والعمل على موضوعات بعمق فلسفي يليق بقصيدة النثر، قبل أن يتحول لاحقا إلى قصيدة النثر، كما وأسهم الهاشمي في العمل النقدي وكذلك في التأريخ للتجارب الشعرية في البحرين.

ينشغل الهاشمي بالحب والإنسان ويجاور الحزن فيجعله قيمة وجودية وأخلاقية تمكن الإنسان من بناء وعي مختلف تجاه العالم، فهو شاعر لا يعترف بالتصنيفات القائمة بين البشر ويؤمن بأن وظيفة الشعر تتعدى المتعة أو الدهشة أو الدعاية، وأن الشعر الحقيقي يستطيع أن يتجاوز الحدود القائمة بين الثقافات والطاقة الروحية للإنسان تمكنه دائما من الوقوف في وجه الكراهية، ولذلك فإنه يتمسك بوضوح اللحظة الشعرية كيلا يتحول معه الشعر إلى عمل قائم على الغرابة والسيريالية، فشعره يتاح للجميع ويمكن ألا يثير المخيلة وبالتأكيد فإنه لا يحرضها، ولكنه يتعامل مع الشعور الإنساني ويعتبر الشعر الحافز لتحريكه تجاه قضية ما أو فكرة معينة، وأفكاره الشعرية تستطيع أن تحتضن الهموم الإنسانية العادية والمخاوف الكبرى، شعر يمتلئ بالثورة دون أن يعتمد على النبرة العالية، ومهما اختلفت موضوعات القصيدة فإنها تحتفظ بمسحة رومانسية لا يمكن تجاهلها أو إغفالها، وكأنه شاعر ما زال يؤمن بالمدرسة الرومانسية الأوروبية ومبادئها وأفكارها ويمثلها في زمن قصيدة النثر ضمن روحها العربية التي تزاوج ببساطة ودون كثير من تكلف بين لغة شفافة وفكرة عميقة، رومانسية تحتفي بالأمل والوطن والحب ورغبة البقاء وتعانق الفروسية التي يمكن أن تصفح عن ظلم القبيلة وتعاليها عن الهموم الصغيرة وهي تواجه العتمة والظمأ وقطاع الطرق.

أ.ر

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى