موقف عمومي

#موقف_عمومي

د. #هاشم_غرايبه

ليس أداء العبادات ولا الالتزام بلباس معين هي إمارات الإيمان، فهذه مظاهر قد تكون صادقة الدلالة أو تظاهرا مرائياً خادعا ، لكن أهم ما يميز المؤمن عن غير المؤمن في سلوكه أنه منضبط بأفعاله وأقواله وفق قواعد الشرع. قد تجد غير مؤمن ملتزم أيضا بالقواعد الأخلاقية في السلوك، لكن من النادر أن يكون كذلك بدافع من تربيته، فالأغلب مراعاة للتقاليد والأعراف المجتمعية أو خوفا من مخالفة القانون، وبغياب الرادع والحافز، تميل النفس لاتباع الهوى وتغليب المصلحة الأنانية، وأكثر بكثير من الميل للقيم الجمالية والمثاليات.
لذلك يختلف السلوك عند هؤلاء عندما يأمنوا سرية سلوكاتهم عن الآخرين أو غياب رقابة القانون، لكن عند المؤمنين لا تجد اختلافا بين ما هو جلي منها مكشوف للآخرين وبين ما يسره المرء في نفسه ولا يبوح به، كونهم موقنون أنه حتى لو نجحوا في إخفاء أعمالهم السيئة عن الناس أو الدولة، فلا سبيل الى التفلت من رقابة الله، وسيحاسبون عليها.
ورغم أن غير المؤمنين لا يحبون الاعتراف بهذه الحقيقة الأكيدة، فيبحثون عن حالات لمؤمنين لم يقوّم الإيمان نفوسهم، لكي ينقضوا هذه القاعدة، لكنهم سرعان ما تسقط حجتهم بالبدهية المنطقية، وهي أن المنهج لا يحاكم بناء على صلاح الاشخاص الذين يعلنون اتباعه، بل بناء على صلاح جوهره وسلامة بنيانه العقدي.
وبالطبع فأكبر عائق أمام صلاح الأفراد واستقامتهم، هو التناقض الذي يقعون فيه مع المناهج البشرية (قوانين الدولة) المتعارضة مع تطبيق منهج الله في كافة المجالات: اجتماعيا وثقافيا واقتصادياً، إذ ستقترب هذه السلوكيات من المثالية، وتصلح المجتمعات أكثر، لو كانت رقابة القانون شرعية أيضا، من هنا كان أمر الله تعالى لنبيه الكريم بالهجرة الى المدينة، فليس المراد من الدين الوعظ والإرشاد لتحقيق الصلاح الفردي فقط، بل تحقيق الصلاح المجتمعي، وهذا لن يتحقق بغير قيام نظام سياسي اسلامي يحكم بما أنزله الله، وليس بما توافق عليه مترفو المجتمع وأعيانه من قوانين وضعية، والذين بلا شك لن يضعوا فيها إلا ما يوافق مصالحهم ويديم امتيازاتهم.
قد يعترض على ما سبق من يقول: هذه الدول الأوروبية اتبعت منهجا مغايرا لمنهج الله، واستطاعت أن تحقق كثيرا من متطلبات شعوبها، باتباع العلمانية التي تلغي الحاجة للإيمان.
للرد على ذلك يجب أن ننتبه أولا، أن المقارنة بين أنظمتهم وأنظمتنا الحاكمة لبلادنا الإسلامية، ليست منصفة، فأنظمتنا أيضا تطبق منهجهم العلماني وتمانع تطبيق منهج الله، لكنها فاشلة وفاسدة بعكس أنظمتهم، والسبب أنها تطبق علمانيتهم منزوعا منها الدسم، أي أساسيات الديموقراطية مثل الشرعية الانتخابية أوالحريات الأساسية أواستقلال القضاء، وبالطبع فذلك مقصود، وليس بمقدورها تغييره لو أرادت، فهو مفروض عليها كأهم استحقاقات أنظمة (سايكس – بيكو) التي أوجدها المستعمر لضمان عدم العودة الى الدولة الإسلامية، وجعل الفشل والفساد عنوانا لهذه الأنظمة لضمان تبعيتها الاقتصادية، وحدد لكل دولة يوما سماه عيد الاستقلال، تحتفل فيه الأنظمة وجماهيرها الغفورة، مع أنهم يعلمون أنهم لا يملكون استقلالية القرار، بدليل تواجد قواعد عسكرية غربية في كل دولة عربية، خارج سلطة الدولة ورقابتها، بل لا يجرؤ مسؤول على دخولها بلا إذن مسبق.. فأي استقلال هذا!؟.
أما للمقارنة بين العلمانية ومنهج الله، فلا تجوز المقارنة أصلا، لأن العلمانية ليست منهجا وقواعد، فهي نمط يعتمد على عدم اتباع منهج الله، والذي لم يكن موجودا أصلا في أوروبا، فما كان هو سلطة مؤسسة الكنيسة التي نزعت من الدين تشريعاته (الحلال والحرام)، فلم يعد يختلف كثيرا عن سلطة كهنة الأكليروس القدماء، وعددت الآلهة فما بات الدين مختلفا جوهريا عن معتقدات الإغريق والرومان الوثنية، وتم تقزيم الدين في صورة مؤسسة الكنيسة البابوية مهمتها الوحيدة وعظية حيادية أمام الخير والشر، وجرى ترويضها فتخلت حتى عن تبني القيم الانسانية الأساسية، كإباحة الاجهاض والشذوذ والربا.
لذلك فلم تعد تشكل أي ممانع للتشريعات التي يضعها المترفون (الرأسمالية – العلمانية) لتحقق مصالحهم، وهذا ما يفسر اصرار العلمانيين على العداء للإسلام تحديدا، لدرجة رفض اعتباره دينا سماويا، فلا يعترفون إلا بالمسيحية واليهودية.
كما يفسر تبني المستعمرين الأوروبيين لأتباع هاتين العقيدتين، وشنهم الحروب الاستئصالية ضد الإسلام طوال التاريخ، وأحدث حلقاتها الحرب على غزة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى