تحذير الإمام الغزالي وابن القيم من ضرر منكري الحقائق العلمية

تحذير #الإمام_الغزالي و #ابن_القيم من ضرر منكري #الحقائق_العلمية بناءا على التأويلات الخاطئة للنصوص الدينية

الدكتور منصور أبوشريعة العبادي \جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية

لقد كان النأويل الخاطيء لبعض نصوص الكتب المقدسة المتعلقة بالحقائق الكونية في جميع الأديان سببا في إعاقة التقدم العلمي على مر العصور. ومن أكبر الأمثلة على ذلك موقف الكنيسة المسيحية من علماء الطبيعة في بداية القرن السادس عشر الميلادي مع بوادر ظهور النهضة العلمية في أوروبا. فلقد تعرض بعض علماء الطبيعة البارزين للقتل والتعذيب والإستتابة من قبل رجال الكنيسة بسبب وضعهم للنظريات العلمية على اعتبار أنها تتعارض مع نصوص التوراة والإنجيل حسب زعمهم. فالفلكي البولندي نيكولاس كوبرنيكوس في القرن السادس عشر الميلادي قام بنشر نظريته حول مركزية الشمس ودوران الأرض حولها وحول نفسها باسماء مستعارة خوفا من سطوة الكنيسة التي كانت تقول بمركزية الأرض للكون وثباتها. وتم محاكمة الفيزيائي الايطالي جاليليو جاليلي من قبل الكنيسة التي منعته من نشر الأفكار المتعلقة بدوران الأرض حول محورها وحول الشمس. أما الفيزيائي الشهير إسحاق نيوتن فقد تعرض للهجوم من رجال الكنيسة بعد اكتشافه لقانون الجذب العام واستخدامه لتفسير حركة جميع أجرام السماء. ومع ظهور الحركة العلمية في العصر العباسي قام بعض علماء الدين المسلمين بمهاجمة الفلاسفة وعلماء الطبيعة المسلمين الذين قاموا بترجمة علوم الأمم السابقة والاشتغال بها والإضافة عليها. وكانت حجة هؤلاء الرافضين لعلوم الطبيعة هو ظنهم أنها تتعارض مع بعض الآيات القرءانية والأحاديث النبوية التي تتحدث عن الظواهر الطبيعية ككروية الأرض وظاهرتي الكسوف والخسوف وغيرها, ولحسن الحظ أن غالبية علماء الدين المسلمين في العصر العباسي وما تبعه من عصور كانوا داعمين لجهود العلماء المسلمين المشتغلين في مختلف علوم الطبيعة وخاصة علم الفلك الذي استخدموه في تحديد مواقيت العبادات المختلفة واتجاه القبلة وغيرها.

لم يقتصر دور علماء الشريعة المسلمين في العصر الذهبي للاسلام على دعم الحركة العلمية والترويج لها بل تجاوزوا ذلك وقاموا بالتحذير من خطر بعض جماعات المسلمين على الدين الاسلامي بإنكارهم الحقائق العلمية بناءا على التأويلات الخاطئة للنصوص الدينية. ونظرا لحجم الخطر الذي قد تلحقه هذه الجماعات بالدين فقد وصل الأمر بابن القيم الجوزية أن يصفهم بالضلال والشرك وهو موقف قد يكون مستغربا من مسألة لا تتعلق مباشرة بالعقيدة. ولكن سيتضح للقاريء بعد قليل مدى بعد نظر ابن القيم ومن قبله الامام الغزالي عندما قاموا بالتحذير من خطر هذه الجماعات ووصفهم بالجهل والضلال والشرك. ويكمن ضرر هذه الجماعات على الدين في عدة مخاطر فالخطر الأول هو إيجاد تعارض بين النصوص الدينية في القرءان الكريم والحديث النبوي وبين الحقائق العلمية الثابتة. إن مثل هذه التعارض المزعوم بين الدين والعلم قد يدفع ببعض ضعاف الإيمان من المسلمين في تكذيب الدين وتصديق العلم كما قال ذلك حجة الاسلام الغزالي (ومن ظن أن المناظرة في ابطال هذا من الدين فقد جنى على الدين، وضَعَّف أمره، فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابيَّة لا يبقى معها ريبة. فمن تطلَّع عليها، ويتحقَّق أدلّتها، حتى يُخبر بسببها عن وقت الكسوفين وقدرهما ومدة بقائهما إلى الانجلاء، إذا قيل له إن هذا على خلاف الشرع، لم يسترب فيه، وإنما يستريب في الشرع، وضرر الشرع ممَّن ينصره لا بطريقه أكثر من ضرره ممّن يطعن فيه بطريقة). وقد أكد ابن القيم الجوزية نفس كلام الغزالي بعد مرور ثلاثة قرون فقال (فَإِذا قَالَ لَهُم هَؤُلَاءِ هَذَا الذى تذكرونه على خلاف الشَّرْع والمصير إِلَيْهِ كفر وَتَكْذيب الرُّسُل لم يستريبوا فِي ذَلِك وَلم يلحقهم فِيهِ شكّ وَلَكنهُمْ يستريبون بِالشَّرْعِ وتنقص مرتبَة الرُّسُل من قُلُوبهم وضرر الدّين وَمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل بهؤلاء من أعظم الضَّرَر وَهُوَ كضرره بأولئك الْمَلَاحِدَة فهما ضرران على الدّين ضَرَر من يطعن فِيهِ وضرر من بنصره بِغَيْر طَريقَة).

أما الخطر الثاني والأهم لهذه الجماعات فهو رفضهم تأثير الأسباب المحسوسة في مسبباتها ونفي وجود قوى وقوانين أودعها الله عز وجل في جميع مخلوقات الكون معتقدين أن ذلك يتنافى مع الإيمان بالله عز وجل وأنه سبحانه هو الذي يسير شؤون مخلوقاته بدون هذه القوى والقوانين. وعن هذا الخطر قال ابن القيم (وكقولهم بتأثير الْأَسْبَاب المحسوسة فِي مسبباتها وَإِثْبَات القوى والطبائع وَالْأَفْعَال وانفعالات مِمَّا تقوم عَلَيْهِ الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة والبراهين اليقينية فيخوض هَؤُلَاءِ مَعَهم فِي إِبْطَاله فيغريهم ذَلِك بكفرهم وإلحادهم وَالْوَصِيَّة لأصحابهم بالتمسك بِمَا هم عَلَيْهِ). إن مثل هذا الاعتقاد الفاسد عند هذه الجماعات يعمل على إعاقة البحث العلمي وكشف أسرار مخلوقات الله عز وجل في هذا الكون والتي تظهر معجزاته سبحانه في كل مخلوقاته مصداقا لقوله تعالى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)) فصلت وقوله تعالى (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)) النمل. ومن المعتقدات والتصورات الفاسدة عند هذه الجماعات الضالة التي لا يقبلها عقل سليم هو قولهم أن المطر ينزل من بحر في السماء إلى السحب ثم ينزل منها إلى الأرض وليس بسبب تبخر الماء من البحار والمحيطات وتكثفه في طبقات الجو الباردة وأن الرعد هو صوت الملك الذي يسوق السحاب والبرق هو لمعان سوطه. وكذلك هو الحال مع الشمس فهي لا تصدر الضوء والحرارة من تلقاء نفسها وليست هي سبب حدوث الليل والنهار وأنها على ارتفاع لا يزيد عن خمسة الآف كيلومتر ولا يتجاوز قطرها خمسين كيلومتر. وهم بالطبع يرفضون كروية الأرض ويعتبرونها مسطحة وأن السماء عبارة عن قبة من المعدن تغطي سطح الأرض على ارتفاع خمسة الآف كيلومتر فوق القطب الشمالي الذي هو مركز الأرض عندهم. أما قوة الجاذبية رغم أنها أوضح قوى الطبيعة وتم اكتشافها قبل الفي سنة إلا أن هذه الجماعات الجاهلة تنكر وجودها لأنها تنقض كثيرا من تصوراتهم الفاسدة للكون . وتنكر هذه الجماعات أيضا وجود الفضاء ووجود المجرات والنجوم بهذه الأعداد الضخمة التي تقاس بالاف المليارات والمسافات الهائلة التي تقاس بمليارات السنوات الضوئية. بل بلغ الجهل بهم إنكار وجود الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض رغم الخدمات الكثيرة التي تقدمها للبشر ورغم أنهم يرون بأم أعينهم الأطابق التي تلتقط إشارتها وهي موجهة نحو السماء حيث توجد هذا الأقمار.

لقد حذر حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (القرن الخامس الهجري) المسلمين من مغبة إنكار الحقائق العلمية اعتمادا على التأويلات الخاطئة للنصوص الدينية لما في ذلك من ضرر على الدين. وعلى الرغم من أن الغزالي قام بتأليف كتابه تهافت الفلاسفة لدحض كثير من أراء الفلاسفة إلا أنه لم ينكر علومهم التي تعتمد على أسس علمية واضحة كعلوم الطبيعة كالفيزياء والكيمياء والأحياء والفلك والرياضيات والهندسة والطب. وقال إن هذه العلوم الطبيعة لا تتعارض مع أصول الدين والتصديق بها لا يتنافى مع التصديق بما جاءت به الأنبياء والرسل. ومما قاله الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة حول هذا الأمر (لقسم الثاني: ما لا يصدم مذهبهم فيه أصلاً من أصول الدين، وليس من ضرورة تصديق الأنبياء والرسل منازعتهم فيه، كقولهم: إن كسوف القمر، عبارة عن انمحاء ضوء القمر بتوسط الأرض بينه وبين الشمس، والأرض كرة والسماء محيطة بها من الجوانب، وإن كسوف الشمس، وقوف جرم القمر بين الناظر وبين الشمس عند اجتماعهما في العقيدتين على دقيقة واحدة. وهذا الفن أيضاً لسنا نخوض في إبطاله إذ لا يتعلق به غرض ومن ظن أن المناظرة في ابطال هذا من الدين فقد جنى على الدين، وضَعَّف أمره، فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابيَّة لا يبقى معها ريبة. فمن تطلَّع عليها، ويتحقَّق أدلّتها، حتى يُخبر بسببها عن وقت الكسوفين وقدرهما ومدة بقائهما إلى الانجلاء، إذا قيل له إن هذا على خلاف الشرع، لم يسترب فيه، وإنما يستريب في الشرع، وضرر الشرع ممَّن ينصره لا بطريقه أكثر من ضرره ممّن يطعن فيه بطريقة. وهو كما قيل: عدوّ عاقل خير من صديق جاهل. فان قيل: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: (( ان الشمس والقمر لآيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فاذا رأيتم ذلك فافزعوا الى ذكر الله والصلاة)) ، فكيف يلائم هذا ماقالوه؟ قلنا: وليس فى هذا ما يناقض ما قالوه ، اذ ليس فيه الا نفى وقوع الكسوف لموت احد او لحياته والامر بالصلاة عنده. والشرع الذى يأمر بالصلاة عند الزوال والغروب والطلوع من أين يبعد منه ان يأمر عند الكسوف بها استحباباً؟ فان قيل: فقد روُى انه قال فى آخر الحديث: (( ولكن الله اذا تجلىّ لشىء خضع له)) فيدلّ على ان الكسوف خضوع بسبب التجلى، قلنا: هذه الزيادة لم يصحّ نقلها فيجب تكذيب ناقلها، وانما المروى ما ذكرناه كيف، ولو كان صحيحاً، لكان تأويله أهون من مكابرة أمور قطعية. فكم من ظواهر أُوّلت بالأدلة العقليَّة التي لا تنتهي في الوضوح إلى هذا الحد. وأعظم ما يفرح به المُلحدة، أن يصرح ناصر الشرع بأن هذا، وأمثاله على خلاف الشرع، فيسهل عليه طريق إبطال الشرع، ان كان الشرع امثال ذلك. وهذا: لأنّ البحث في العالم عن كونه حادثاً أو قديماً، ثم إذا ثبت حدوثه فسواء كان كرة، أو بسيطاً، أو مثمناً، أو مسدّساً، وسواء كانت السماوات، وما تحتها ثلاثة عشرة طبقة، كما قالوه، أو أقلّ، أو أكثر، فنسبة النظر فيه الى البحث الالهىّ كنسبة النظر الى طبقات البصل وعددها وعدد حبّ الرمان. فالمقصود: كونه من فعل الله سبحانه وتعالى فقط، كيف ما كانت ).

إن الذي يتدبر كلام الإمام الغزالي يتأكد له مدى عبقريته وتفتح عقله وسعة فهمه للدين وكذلك فهمه لعلوم عصره فهو يفهم فهما صحيحا ظاهرتي الخسوف والكسوف ويصف آلية حدوثهما اعتمادا على فرضية الأرض الكروية. وفي المقابل نجد بعض المسلمين في هذا العصر لا زالوا في شك من كروية الأرض ناهيك عن دورانها حول نفسها وحول الشمس ويفسرون ظواهر الخسوف والكسوف بتصورات ساذجة لا تقوم على أي أساس علمي. ويؤكد الغزالي على أن دراسة الظواهر الطبيعية قائم على براهين هندسية حسابية يمكن من خلالها تفسير كيفية حدوث هذه الظواهر والتنبؤ بأوقات حدوثها كما هو الحال مع ظاهرتي الكسوف والخسوف. وحذر الإمام الغزالي من خطر بعض جهلة المسلمين الذين يقولون أن هذه التفسيرات العلمية للظواهر الكونية تتعارض مع ما جاء به الشرع مما يدفع ببعض الجهلة أمثالهم للشك في الشرع بدلأ من أن يشك في التفسيرات العلمية. وأكد الغزالي على أن ضرر هؤلاء الجهلة على الدين أكثر من ضرر المكذبين بالدين فقال (وضرر الشرع ممَّن ينصره لا بطريقه أكثر من ضرره ممّن يطعن فيه بطريقة. وهو كما قيل: عدوّ عاقل خير من صديق جاهل). وبناء على هذا الفهم الصحيح للحقائق الكونية فإن الغزالي لا يتردد في تكذيب النصوص الدينية غير قطعية الدلالة إذا ما تعارضت مع الحقائق العلمية القطعية. بل إن الغزالي ذهب إلى أبعد من ذلك فأفتى بتأويل النصوص الدينية قطعية الثبوت لتتماشى مع الحقائق العلمية القطعية حيث قال (ولو كان صحيحاً، لكان تأويله أهون من مكابرة أمور قطعية. فكم من ظواهر أُوّلت بالأدلة العقليَّة التي لا تنتهي في الوضوح إلى هذا الحد. وأعظم ما يفرح به المُلحدة، أن يصرح ناصر الشرع بأن هذا، وأمثاله على خلاف الشرع، فيسهل عليه طريق إبطال الشرع). وقد وضح الغزالي السبب الذي دعاه لتأويل النصوص الدينية لتتوافق مع الحقائق العلمية وهو أن الملاحدة قد يستغلون التعارض بينهما إلى الطعن في الدين وأن تعاليمه مخالفة للحقائق العلمية الثابتة والقائمة على براهين هندسية رياضية لا يمكن الطعن بصحتها. وعلى علماء الدين المسلمين أن يتخذوا من نصيحة هذا العلامة الفذ منارة يهتدون بها وهم يعيشون في عصر فتح الله به جميع أبواب المعرفة على البشر وأن لا يقعوا في نفس الخطأ الذي وقع فيه علماء الدين من أهل الكتاب في العصور المظلمة من إنكار النظريات العلمية بسبب تأويلات خاطئة للنصوص الدينية.

أما ابن القيم الجوزية ( القرن الثامن الهجري) فقد كان أشد قسوة على منكري الحقائق العلمية بناءا على التأويلات الخاطئة للنصوص الدينية ووصفهم بالضلال والشرك. لقد قام ابن القيم بشرح ظاهرتي الكسوف والخسوف بإسهاب في كتابه مفتاح دار السعادة رغم أن هذا العلم ليس من اختصاصه وذلك لتبيان فساد معتقدات هؤلاء الناس. لقد وضح ابن القيم الأسباب التي دعته لشرح ظاهرتي الكسوف والخسوف بهذا التفصيل فقال أن السبب الأول هو أن بعض الجهال والرعاع قد يصدقون المشتغلين بالتنجيم في إدعائهم أن هذه الظواهر لها تأثير على أحوال البشر وهي في الحقيقة ظواهر طبيعية تحكمها القوانين التي أودعها الله عز وجل هذا الكون فقال (وَإِنَّمَا ذكرنَا هَذَا الْفَصْل وَلم يكن من غرضنا لِأَن كثيرا من هَؤُلَاءِ الأحكاميين يموهون على الْجُهَّال بِأَمْر الْكُسُوف ويؤهمونهم إِن قضاياهم وأحكامهم النجومية من السعد والنحس وَالظفر وَالْغَلَبَة وَغَيرهَا هِيَ من جنس الحكم بالكسوف فَيصدق بذلك الأغمار والرعاع وَلَا يعلمُونَ أَن الْكُسُوف يعلم بِحِسَاب سير النيرين فِي منازلهما وَذَلِكَ أَمر قد أجْرى الله تَعَالَى الْعَادة المطردة بِهِ كَمَا أجراها فِي الأبدار والسرار والهلال فَمن علم مَا ذَكرْنَاهُ فِي هَذَا الْفَصْل علم وَقت الْكُسُوف ودوامه ومقداره وَسَببه). أما السبب الثاني وهو الأهم فهو أن طائفة من جهلة المسلمين قد يعتقدون أنه يلزم للإيمان بالله عز وجل نفي وجود الأسباب والمسببات وينكرون وجود قوى وقوانين تقف وراء حدوث الظواهر الطبيعية في مخلوقات هذا الكون. فقال ابن القيم عن هذه الطائفة (والطائفة الثَّانِيَة رَأَتْ مُقَابلَة هَؤُلَاءِ برد كل مَا قَالُوهُ من حق وباطل وظنوا ان من ضَرُورَة تَصْدِيق الرُّسُل رد مَا علمه هَؤُلَاءِ بِالْعقلِ الضرورى وَعَلمُوا مقدماته بالحس فنازعوهم فِيهِ وتعرضوا لإبطاله بمقدمات جدلية لَا تغنى من الْحق شَيْئا وليتهم مَعَ هَذِه الْجِنَايَة الْعَظِيمَة لم يضيفوا ذَلِك إِلَى الرُّسُل بل زَعَمُوا إِن الرُّسُل جاؤا وَبِمَا يَقُولُونَهُ فسَاء ظن أُولَئِكَ الْمَلَاحِدَة بالرسل وظنوا أَنهم هم أعلم وَأعرف مِنْهُم). والطائفة الأولى التي ردت عليها الطائفة الثانية هم طائفة من المسلمين ارتدت عن دينها وادعت أنه طالما يوجد أسباب لحدوث هذه الظواهر وتحكمها قوى وقوانين الطبيعة فلا يلزم وجود إله يدير شؤونها وأحالوا أمر تصريف أمور هذه المخلوقات لنفسها. وعن الطائفة الأولى قال ابن القيم (وَلَقَد خفى مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل على طائفتين هلك بسببهما من شَاءَ الله وَنَجَا من شركهما من سبقت لَهُ الْعِنَايَة من الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وقفت مَعَ مَا شاهدته وعلمته من أُمُور هَذِه الْأَسْبَاب والمسببات وإحالة الْأَمر عَلَيْهَا وظنت أَنه لَيْسَ لَهَا شىء فكفرت بِمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل وجحدت المبدأ والمعاد والتوحيد والنبوات وَغَيرهَا).

واتخذ إبن القيم نفس الموقف الذي اتخذه حجة الاسلام الغزالي من الحقائق العلمية فقال إنه لا يمكن مكابرة علماءالطبيعة في معارفهم حول مخلوقات هذا الكون لأنها أصبحت معلومة للبشر بالضرورة أي أنها قائمة على أدلة عقلية وبراهين يقينية لا تقبل التشكيك فيها فقال (ومكابرتهم إيَّاهُم على مَا لايمكن المكابرة عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ مَعْلُوم لَهُم بِالضَّرُورَةِ كمكابرتهم إيَّاهُم فِي كَون الأفلاك كروية الشكل وَالْأَرْض كَذَلِك وَأَن نور الْقَمَر مُسْتَفَاد من نور الشَّمْس وَأَن الْكُسُوف القمرى عبارَة عَن انمحاء ضوء الْقَمَر بتوسط الأَرْض بَينه وَبَين الشَّمْس من حَيْثُ انه يقتبس نوره مِنْهَا وَالْأَرْض كرة وَالسَّمَاء مُحِيطَة بهَا من الجوانب فَإِذا وَقع الْقَمَر فِي ظلّ الأَرْض انْقَطع عَنهُ نور الشَّمْس كَمَا قدمْنَاهُ وكقولهم أَن الْكُسُوف الشمسى مَعْنَاهُ وُقُوع جرم الْقَمَر بَين النَّاظر وَبَين الشَّمْس عِنْد اجْتِمَاعهمَا فِي العقدتين على دقيقة وَاحِدَة وكقولهم بتأثير الْأَسْبَاب المحسوسة فِي مسبباتها وَإِثْبَات القوى والطبائع وَالْأَفْعَال وانفعالات مِمَّا تقوم عَلَيْهِ الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة والبراهين اليقينية فيخوض هَؤُلَاءِ مَعَهم فِي إِبْطَاله فيغريهم ذَلِك بكفرهم وإلحادهم وَالْوَصِيَّة لأصحابهم بالتمسك بِمَا هم عَلَيْهِ). وفي هذا النص أكد ابن القيم على أن الخطر الأكبر لمنكري الحقائق العلمية هو ليس فقط في انكار كروية الأرض وأن القمر يستمد نوره من الشمس والتفسير العلمي لظاهرة الكسوف والخسوف بل في رفضهم تأثير الأسباب المحسوسة في مسبباتها ونفي وجود قوى وقوانين أودعها الله عز وجل في جميع مخلوقات الكون. وقال ابن القيم إن خوض بعض المسلمين في إبطال الحقائق العلمية قد يغري الملاحدة وأصحابهم من ضعيفي الايمان من المسلمين بالتمسك بكفرهم لظنهم وجود تعارض بين النصوص الدينية والحقائق العلمية. ولذلك فقد أكد ابن القيم على أن ضرر الطائفة الثانية وهم منكرو الحقائق العلمية من المسلمين على الدين أشد من ضرر الطائفة الأولى وهم الملحدون عليه فقال (فَإِذا قَالَ لَهُم هَؤُلَاءِ هَذَا الذى تذكرونه على خلاف الشَّرْع والمصير إِلَيْهِ كفر وَتَكْذيب الرُّسُل لم يستريبوا فِي ذَلِك وَلم يلحقهم فِيهِ شكّ وَلَكنهُمْ يستريبون بِالشَّرْعِ وتنقص مرتبَة الرُّسُل من قُلُوبهم وضرر الدّين وَمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل بهؤلاء من أعظم الضَّرَر وَهُوَ كضرره بأولئك الْمَلَاحِدَة فهما ضرران على الدّين ضَرَر من يطعن فِيهِ وضرر من بنضره بِغَيْر طَريقَة وَقد قيل إِن الْعَدو الْعَاقِل أقل ضَرَرا من الصّديق الْجَاهِل فَإِن الصّديق الْجَاهِل يَضرك من حَيْثُ يقدر أَنه بنقعك والشأن كل الشَّأْن أَن تجْعَل الْعَاقِل صديقك وَلَا تَجْعَلهُ عَدوك وتغريه بمحاربة الدّين وَأَهله).

وأخيرا وضح ابن القيم أنه لا يوجد أي تعارض بين معرفة أسباب الكسوف والخسوف وبين ما جاء في الحديث النبوي الشريف (أَن الشَّمْس وَالْقَمَر آيتان من آيَات الله لَا ينخسفان لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فافزعوا إِلَى ذكر الله وَالصَّلَاة) . فهذا الحديث يؤكد على عدم ارتباط الكسوف والخسوف بأحوال البشر من موت وحياة وغيرها وأن الفزع للصلاة عند حدوثهما لا يتناقض مع كونهما ظواهر طبيعية فقال ابن القيم (فَإِن قلت فقد أطلت فِي شَأْن الْكُسُوف وأسبابه وَجئْت بِمَا شِئْت بِهِ من الْبَيَان الذى لم يشْهد لَهُ الشَّرْع بِالصِّحَّةِ وَلم يشْهد لَهُ بِالْبُطْلَانِ بل جَاءَ الشَّرْع بِمَا هُوَ أهم مِنْهُ وَأجل فَائِدَة من الْأَمر عِنْد الكسوفين بِمَا يكون سَببا لصلاح الْأمة فِي معاشها ومعادها وَأما أَسبَاب الْكُسُوف وحسابه وَالنَّظَر فِي ذَلِك فَإِنَّهُ من الْعلم الَّذِي لايضر الْجَهْل بِهِ وَلَا ينفع نفع الْعلم بِمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل وَبَين عُلُوم هَؤُلَاءِ فَكيف نصْنَع بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح عَن النبى أَن الشَّمْس وَالْقَمَر آيتان من آيَات الله لَا ينخسفان لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فافزعوا إِلَى ذكر الله وَالصَّلَاة فَكيف يلائم هَذَا مَا قَالَه هَؤُلَاءِ فِي الْكُسُوف قيل وأى مناقضة بَينهمَا وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا نفي تَأْثِير الْكُسُوف فِي الْمَوْت والحياة على أحد الْقَوْلَيْنِ أَو نفي تَأْثِير النيرين بِمَوْت أحد أَو حَيَاته على القَوْل الآخر وَلَيْسَ فِيهِ تعرض لإبطال حِسَاب الْكُسُوف وَإِلَّا الْأَخْبَار بِأَنَّهُ من الْغَيْب الذى لَا يُعلمهُ إِلَّا الله وَأمر النَّبِي عِنْده بِمَا أَمر بِهِ من الْعتَاقَة وَالصَّلَاة وَالدُّعَاء وَالصَّدَقَة كأمره بالصلوات عِنْد الْفجْر والغروب والزوال مَعَ تضمن ذَلِك دفع مُوجب الْكُسُوف الَّذِي جعله الله سُبْحَانَهُ سَببا لَهُ فشرع النَّبِي للْأمة عِنْد انْعِقَاد هَذَا السَّبَب مَا هُوَ أَنْفَع لَهُم وأجدى عَلَيْهِم فِي دنياهم وأخراهم من اشتغالهم بِعلم الْهَيْئَة وشأن الْكُسُوف وأسبابه ).

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى