هائمون بالوطن

هائمون بالوطن

د. علي المستريحي.  

عدت للتو للوطن بعد غياب طويل .. كان ذلك مع بدايات الألفية الجديدة، وكان العالم وقتها لا زال يقول: “يا هادي، استعنّا على الشقى بالله .. الله يسترنا مع الألف سنة القادمة”!  

في صبيحة اليوم التالي من وصولي، ذهبت لسحْب بعض النقود من حسابي البنكي، فطلبوا بطاقتي الشخصية إثباتا لشخصيتي، لكني كنت فقدتها بمكان ما، ربما خلال حلّي وترحالي خارج البلد، فأعطيتهم جواز سفري بديلا، ثم دفتر عائلتي، فقوبل طلبي بالرفض، مع أن موظف البنك كان يعرفني شخصيا .. يعرفني تماما! كنت أقف على مسافة أمتار معدودة من الصندوق الذي يبتلع كل ما أملك من نقود وأنا أتحسر .. كان عليّ أن أثبت أن أنا .. هو أنا! لم أعلم إلا حينها أن فقدان بطاقة بلاستيكية بحجم ورقة التوت البريّ وبأقصر طولا من أصبع السبّابة يعني فقدان وطن، وبدونها أنت لا شيء ومجرد وهم وخيال وهلوسات .. بدونها أنت لست موجودا أصلا بأي شكل من أشكال الوجود الحسّي أو التحول الفيزيائي!  

بعد أن فقدت الأمل، ذهبت لإجراء معاملة استصدار بطاقة شخصية جديدة لي “بدل فاقد” .. ابتدأ الأمر بالأحوال المدنية، فوجدت نفسي بقسم الشرطة ثم على أعتاب المحكمة! نعم، المحكمة .. فحتى تستعيد ذاتك، يتوجب عليك أن تثبت للمحكمة أنك لست بائعا لهويتك ولست خائنا للوطن! لكن، لا بأس، فلنجعل الأمور أبسط ..  

***       

قبل الدخول لمبنى المحكمة تتلقفك الدعوات من كل حدب وصوب من عدد ممن يسمونهم كُتّاب الاستدعاءات، يجلسون على كراسي صغيرة مهترئة وغريبة الشكل، إذا كشفت أحد سيقانها ستنهار شقاءً وقهراً! يجلسون وراء طاولات يمكن لمّها وطيها ووضعها بالجيب بثوانٍ، يربطها حبل بكرسيين من حولها كأنه صنع من مسد .. تحمل الطاولات على ظهورها حقائب سوداء تطل من جعبتها أوراقا بيضاء .. بدوا لي كأنهم عادوا إلينا ضيوفا على عجل من زمن غابر، فبدت وجوههم قاسية مُرّة دون رتوش، وجوهٌ ألِفتها كثيرا عندما كنت طفلا غضّا أتفحّص وجوه البشر لأتعرف على شكل الحياة وطريقة تصميمها مستخدما حواسّي الخمس، ثم أضيف عليها السادسة لمزيد من الإثارة والجنون. يمطروك بالمناداة بصوتٍ عالٍ وأنت تحاول أن تشق طريقا بينهم وهم يرددون نفس الجمل ولكن بتوقيت وترتيب مختلف: “محكومية أستاذ؟ مخالفة سير؟ قدْح وذمّ؟ تشهير؟”، ثم بصوت كالهمس من آخرهم عند بداية مطلع الدرج: “اختلاس أستاذ؟!”. هذا الأخير بالذات أضحكني، ولا عجب، فقد أصبح الاختلاس مربوطا بأذهان الناس بهندام متأنق وبربطة عنق وابتسامة ممجوجة!  

لم ألق بالاً لكل النداءات وتابعت مسيري صاعدا الدرج. ظننت أنه من العيب لمتعلم مثلي أن يستعين بكاتب استدعاءات ليكتب مظلمته! لكن كان ظني خاطئا! هناك علاقة ما بين هذه المؤسسات وكتّاب الاستدعاءات تبدو أبدية برغم التطور المفترض! لا بأس، فهذه الفئة المتواضعة من الناس تجد بهذا العمل سبيلا للعيش الكريم.  

عدت لكاتب الاستدعاءات الذي ألقفني تهمة الاختلاس على ظهري وأنا أهم بصعود الدرج! ولا أدري بالضبط ما الذي جذبني إليه، ربما لأنه بدا لي غريب الأطوار! كان يلبس سُترة باللون الخاكي. كانت سترته مطرّزة بالنياشين والملصقات والرموز الوطنية و”البروشات” من كل الأشكال .. ملصقات ومطرزات لم تترك مكانا في سترته حتى أثقلتها فبدت متصدعة من فرط الهيام بالوطن وهول مسؤولية الانتماء إليه: علم الأردن بأعلى كُمّه الأيمن وعلم الثورة العربية على كُمّه الأيسر، وخارطة الأردن امتدت من صدره الأيمن حتى توارت “الأغوار” منها تحت أبطه! حتى قلم الحبر “البيك” الذي يكتب فيه كان قد لفّه بملصقٍ حمل كلمات دعاء إلى الله ليحفظ الوطن، وألصق على سطح طاولته “معوّذة الناس” وآية شهادة الزور في الفرقان، ولفّ الطرف الأعلى من الكرسي الذي يجلس عليه بوشاح علم الوطن، وشعار التاج الملكي المذهب يتربع على حقيبته السوداء ..  

جلست على كرسي صغير بجانب أبي فارس كأني أجلس على الأرض. شعرت وأنا أتحدث إليه أنني أعرف بلدي لأول مرة، ودخلت بحالة من التأمل شعرت فيها أن انتمائي لا بد أنه ضحلا وأنني عار على وطني، و .. حتى أيقظني صوته الغليظ النزِق دون سبب:  

  • هو: هات دفتر عائلتك .. جواز سفرك .. صورك الشخصية .. و .. هويتك ..  
  • أنا: هويتي؟ قلت لك أنني فقدتها!  
  • هو: أعرف، قصدت صورة عنها ..  
  • أنا: تفضل يا سيدي، هذا كل ما طلبت ..  
  • هو: حسنٌ .. بقي شيء واحد: شهودٌ مُعرّفان إثنان !  
  • أنا: نعم؟! شهود؟ على ماذا؟  
  • هو: شهودٌ أنك أنت هو أنت!  
  • أنا: لكن ..  
  • هو: لا تجادل .. تحتاج شهودا وهذا شرط المحكمة ..  
  • أنا: لكني لا أعرف أحدا هنا ولا أحد يعرفني!  
  • هو: بسيطة، أدبّرها لك، لكن طبعا “همتك معنا” (ورمقني بنظرة من طرف عينيه مع ابتسامة خبيثة!)  
  • أنا: طيب، كيف؟  
  • هو: يا سيدي، أنا أحد الشهود .. ونحتاج لآخر! (ثم التفت لشاب كان يجلس هناك يستظل بحاوية القمامة): لطفي، تعال! (وثب لطفي مسرعا كأنه كان ينتظر الدعوة، فوصل ومدّ بطاقته الشخصية بيد يكسوها الوشم دون أن ينبس أي منهما بحرف!).  
  • أنا: لحظة .. لحظة .. لا أنت ولا هو يعرفني باسمي الكامل ومن أكون، فكيف تشهدان زورا أمام القاضي أنني أنا هو أنا؟ على الحساب، تلبس جريدة من النياشين وأعلام الوطن وآيات القرآن، فأين أنت من الدين ومن الوطن؟  
  • هو: أنت حر، إنْ حسبتها زوراً فهي زورٌ، لكننا نفعلها لكل الناس، والموظفون يعرفون، ونحن نرتزق ونكسب عيشنا!  
  • أنا: أتكسب عيشك حراما؟ أعطني أوراقي وسأتدبر أمري بنفسي .. وهذه أجرة جهدك ..  

***  

تركت أبا فارس ولم أعد إليه، فقد عثرت على بطاقتي الشخصية بمكان ما بين أوراقي. لكن منذ ذلك اليوم، وصورة الرجل لم تغب عن ذاكرتي .. صرت كلما تذكرته تذكرت سيارتي القديمة التي أصبحت فجأة تسير بسرعة جنونية بالطريق السهل والمنحدر، وكالسلحفاة عند صعودها جبلا، حتى اكتشفت أن محركها معطوب! وكلما تذكرته قفز لذاكرتي قصة ذلك الشيخ الذي كان يمشي على رؤوس أصابع قدميه كي لا يسحق نملة خطئا، ليكتشف العامة أنه ذاته الذي سرق خزنة الوالي!  

أصبحت كلما رأيت من يغالي بحب الوطنويتلحف بأعلامه ويظهر هيامه وولهه فيه، مُهذرا الحديث عن وطنيته وانتمائه، مبالغا في وضع الصور والأغاني التي تمجده، تذكرت كاتب الاستدعاءات، شاهد الزور أبا فارس! وكلما تذكرت أبا فارس، تذكرت أن المبالغة بالفضيلة هي الوجه الآخر للرذلة!  

أصبحت مؤخرا أرى كل يوم المئات من هم مثل كاتب الاستدعاءات، شاهد الزور أبا فارس .. كلهم، كلهم يجمعهم شأن واحد: يتلحفون علم الوطن حتى يوارون به رذيلتهم!  

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى