ما قصة المسؤولية الأدبية الأخلاقية هذه؟

ما قصة المسؤولية الأدبية الأخلاقية هذه؟

د. علي المستريحي

بعد كل أزمة تحدث، يثار جدل واسع حول المسؤولية الأدبية أو الأخلاقية للمراجع العليا من السلطة وخاصة مسؤولية الوزير المعني الذي تتصل الأزمة بصميم عمل وزارته، مع ما يرافق هذا الجدل من مغالطات وسوء فهم لفكرة المسؤولية بشكلها العام، والمسؤولية الأدبية الأخلاقية بشكل خاص. وغالبا ما يدور الجدل وسوء الفهم هذا حول ما إذا كان يتوجب على ذلك الوزير أن يتقدم باستقالته (من تلقاء نفسه أو أن تتم إقالته من قبل المرجع الأعلى) في الحالات التي يقترف فيها أي من الموظفين التابعين لوزارته، وبصرف النظر عن موقعه بالمستوى الإداري، خطأ إداريا أو سوء تصرف. نحاول في هذا المقال تقديم تحليل معمق حول هذه المسألة باتجاه إزالة سوء الفهم هذا.  

لقد شهد الأردن خلال الخمس سنوات الأخيرة عدداُ من حالات الاستقالة لوزراء ومسؤولين التزاما بما يعرف بمسؤوليتهم الأدبية عن الخلل الذي حصل في مؤسساتهم، وبشكل لم نألفه كثيرا في عالمنا العربي قياسا بما ألفته دول غربية متقدمة ومنذ زمن طويل، حيث ظهرت الفكرة بشكلها “القانوني الأدبياتي” أول مرة في إنجلترا عام 1742 عندما استقال رئيس الوزراء والبول (Walpole) بناء على قرار صدر ضده من مجلس العموم.  

وبالرغم من أن حادثة “والبول” قد أسست للمسؤولية السياسية الأدبية في التاريخ الحديث، إلا أن فكرتها ليست جديدة تماما. ففي التاريخ الإسلامي رُوي عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قوله: “لَوْ مَاتَتْ شَاةٌ عَلَى شَطِّ الْفُرَاتِ ضَائِعَةً، لَظَنَنْتُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى سَائِلِي عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ”. وفي الأردن، فقد استقال وزير الداخلية بعد مخالفات حدثت من قبل مواطنين تعبيراً عن فوزهم بالانتخابات النيابية، وقدم كل من وزيري التربية والتعليم والسياحة استقالتيهما على إثر ما عرف بفاجعة البحر الميت عام 2018. بيد أن آخر الاستقالات في الأردن كانت قد حدثت قبل أيام لوزير الصحة بعد فاجعة نقص الأكسجين بمستشفى السلط الحكومي.  

ويتحمل الشخص المسؤولية الأدبية الأخلاقية عند مخالفته لقاعدة من قواعد الأخلاق المتعارف عليها والمكمّلة للقانون. لذا، فأمرها فقط موكول لضمير الفرد والوازع الإنساني الوجداني لديه، فهي لا تدخل في دائرة القانون ولا يترتب عليها جزاءً قانونياً، فهي مسؤولية الفرد أمام الله والمجتمع ومحركها الضمير الذاتي له أيّ كان موقعه. والأصل بالمسؤولية الأدبية أن تقع حتى لو لم يوجد ضرر ناتج عن تصرف الشخص الذي ترتبت عليه هذه المسؤولية. وقيام الشخص بتقديم استقالته متنحيا عن موقع المسؤولية، ملتزما بها، معترفا بتقصيره، وفاتحاً المجال أمام غيره ممن يفترض أنه أكثر كفاءة على تحمل أعبائها، هو تعبير عن امتلاكه الجرأة الأدبية ليحاسب نفسه أولاً قبل أن يحاسبه القانون والعامة. لذلك، عادة ينظر لمن يتحمل المسؤولية الأدبية بشيء من الاحترام والتقدير.  

ولكن السؤال الآخر المهم هنا أيضا هو: هل توجب المسؤولية الأدبية المساءلة؟ وللإجابة على هذا السؤال، لا بد من توضيح مفهومي المسؤولية والمساءلة أولاً.  

تعبّر المسؤولية (Responsibility) عن التزام الفرد، بغض النظر عن موقعه في المستوى الإداري، بأداء المهمات والواجبات الموكولة إليه بشكل مناسب. أما المساءلة (Accountability)، فهي محاسبة الفرد المكلف عن عواقب تصرفاته ومسؤوليته في إنجاز ما تم تكليفه به من عمل بعد انتهائه منه من قبل من هو أعلى منه سلطة بالمستوى الإداري. لذا، تقع المسؤولية بالترتيب أولاً ثم تليها المساءلة. أيضا، يبقى المرجع الأعلى سلطة مسؤولاُ عن تصرفات من هم أدنى منه رتبة، لذا تتجه المسؤولية من الأعلى إلى الأسفل، بعكس المساءلة التي تتجه من الأسفل إلى الأعلى باعتبار أن الموظف مُساءَل أمام رئيسه / رؤسائه عن نتيجة تصرفاته. ويترافق مع هذا الفهم أيضا، وجوب مسؤولية الطرفين كلٌ عن نتيجة أفعاله، فـ “الكل راعٍ والكل مسؤولٌ عن رعيته”، غير أن الفرق هنا في مبدأ المساءلة، فالموظف مساءل أمام من هو أعلى منه سلطة عن نتيجة تصرفاته وليس العكس.  

والجدير بالذكر أن فكرة المساءلة ليست فكرة جديدة، فأول إشارة لها كمفردة كان قبل ألفي عام قبل الميلاد فيما عرف بقانون حمورابي، ملك بابل (The code of Hammurabi)، ثم بدأ يتكرر ظهورها بعد ذلك. ولكن أدبيات المساءلة وسّعت مفهومها بعد ذلك وعمّقت العلاقة التي تربطها بمفهوم المسؤولية. فلمساءلة الفرد عن نتيجة ما أنيط به من عمل، فالأصل بداية أن تكون مسؤولياته واضحة وتتوفر لديه كل الصلاحيات والإمكانيات لمساعدته على القيام بعمله بالشكل المطلوب، وهذه أصبحت قاعدة تشريعية راسخة.  

ولتقريب معنى المسؤولية نسبة للمساءلة، نضرب مثلا فريق كرة القدم. فمدرب الفريق مسؤول عن تدريب اللاعبين وتوزيع الأدوار بينهم ووضع البرامج لتحسين أدائهم ووضع خطط اللعب، وبالمثل، فاللاعبون مسؤولون عن الاستجابة لأوامر المدرب والقيام بالمهام المطلوبة منهم على أكمل وجه وتقديم أقصى ما يمكنهم من أداء في المباريات وتحقيق الفوز. فالجميع مسؤول هنا عما أوكل إليه من مهام. غير أن اللاعبين مساءلون عن نتيجة أدائهم أمام المدرب، والمدرب مساءل أمام المدير الفني عن نتيجة المباراة، والذي هو أيضا بدوره مساءل أمام إدارة النادي عن نتيجة أداء الفريق، وعلى المدرب أن يوضح للمدير الفني أسباب الخسارة، كما يفعل هذا الأخير لإدارة النادي، وعلى المدرب أن يتحمل النتائج عند تكرار الفشل أمام رئيسه وبالمثل يفعل المدير الفني أمام رئيسه وهكذا، ويمكن أن يقدم أي منهما استقالته (أو يُطلب منهما ذلك) بحكم مسؤوليتهما الأخلاقية عن النتائج، ذلك على الرغم من أن أي منهما لم يدخل فعليا أرض الملعب ولم يشارك اللاعبين اللعب أثناء المباريات.  

ولذلك، واستنادا لهذا الفهم، فمبدأ المساءلة هو أحد أهم شروط قبول الشخص بموقع عام. فالوزير الذي يقبل تولى هذا المنصب يكون حكما قد قبل معه شرط مساءلة جمهور المواطنين له عن نتيجة أفعاله وقراراته، فيتحمل النقد واللوم بحالات الفشل، ذلك لأن جمهور المواطنين أعلى منه مرتبة وهم من فوضوه المسؤولية استنادا لقاعدة “الشعب هو مصدر السلطات” (أو هي مسؤولية دستورية سياسية أمام البرلمان، ممثل الشعب قد تطيح بالحكومة كلها في بعض الحالات التي تكون فيها الضرر بليغا [1]). وأيضا يكون هذا الوزير مسؤولاً مسؤولية مدنية مباشرة عما أوكل إليه من مهام وواجبات تخص موقعه [2]، ومسؤولية جزائية بحالات محددة حال تسبب تصرفه ضررا لفد بعينه يرتب عليه القانون عقوبة. والوزير أيضا مسؤول مسؤولية أخلاقية غير مباشرة عن نتائج أفعال من يعملون بإدارته وصولاً لأدنى درجات السلّم الوظيفي، والذين هم بالمقابل مساءلين إداريا وتأديبيا أمام رؤسائهم عن نتيجة أفعالهم وصولاً إليه بأعلى درجات الهرم التنظيمي.   

والجدير ذكره، أن تحمل الفرد للمسؤولية الأدبية لا يعفي صاحبها من مبدأ المساءلة عن تصرفه أمام جهات أعلى منه سلطة طبقا لنوع وطبيعة الضرر الذي نتج عن ذلك التصرف. فقد يقع الضرر على فرد بعينه وقد يتعدى ذلك الأثر إلى مجموعة أوسع أو المجتمع بأكمله، أو يقع أثره على كل هذه المستويات معاً. عندئذٍ يتغير نوع الجزاء، فإذا كان التجاوز لقاعدة قانونيـة آمـرة أو ناهية يرتب عليها القانون عقوبة، فالمسؤولية جزائية، أما إذا تجاوز المـرء حـدود الاتفاق أو حدود ما التزم به قانوناً، فالمسؤولية مدنية.  

وأخيرا، يبقى السؤال: هل حقا من يستقيل أدبيا تتم مساءلته بأي شكل من أشكال المساءلة؟ المعروف أن من يتنحى أو يستقيل أو يقال اعترافا بعدم قدرته على مواصلة العمل أن يتم تحييده وحظره من تسلم مواقع المسؤولية لاحقا وربما للأبد، وهو ما يعد أحد أشكال العقاب الأدبي الأخلاقي له. لكن التجربة من الواقع الأردني كما شهدناها خلال العقدين الماضيين تقول غير ذلك، وأن ذلك لم يحدث! بل وبالعكس، فقد حدثت بعض الحالات التي تمت فيها مكافأة بعض الذين استقالوا أو أقيلوا من خلال إعادة تدويرهم أو تعيينهم بمواقع أخرى ولو بعد حين، كما حدث في حالة إحدى الوزيرات التي تم تعيينها سفيرة للمملكة بإحدى الدول بعيد فاجعة البحر الميت مباشرة وقبل أن ينته التحقيق بالحادثة وقبل أن يجف تراب رفاة من رحلوا في تلك الفاجعة المؤلمة! الحاصل، نقول لمن يشعرون بالغضب أو الحزن على استقالة بعض المسؤولين والتعاطف معهم لأسباب قد تكون قبلية أو لكونهم من ذوي القربى أو بكونهم أصدقاء لهم أو مستفيدين من بقائهم بالسلطة: اطمئنوا، فالمكافأة بالطريق إليهم!!  

[1] تنص المادة (51) من الدستور الأردني على أن: “رئيس الوزراء والوزراء مسؤولون أمام مجلس النواب مسؤولية مشتركة عن السياسة العامة للدولة كما أن كل وزير مسؤول أمام مجلس النواب عن أعمال وزارته “. ولذلك، يعتبر كل الوزراء موافقون ضمنا على قرارات مجلسهم ولو كان لأحدهم اعتراض حول قرار اتخذه المجلس، فالأصل ألا يوجه النقد له أمام العامة، وبالعكس، فالأصل أن يدافع عن القرار طالما بقي بالحكومة، وإلا وجب عليه تقديم استقالته.  

[2] تنص المادة (55) من الدستور الأردني على أنه: “يحاكم الوزراء على ما ينسب إليهم من جرائم ناتجة عن تأدية وظائفهم أمام المحاكم النظامية المختصة “.  

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى