عندما يكون الربح خسارة

عندما يكون الربح خسارة
د. علي المستريحي

كانت لي تجارة مع صديق ربطتني به علاقة توأمة وثيقة منذ العهد الطباشيري بالمدارس .. أصبنا بتجارتنا مالا وفيرا بداية الطريق .. إلا أننا اختلفنا عند منعطف تجاري حرج، ثم زادت شقة الخلاف، ثم وصل الخلاف أوجه .. كنت على يقين أن لي حق عنده .. قدمت له تسوية للحل تلو تسوية ولم ينفع .. وسّطت أصدقاء لنا بالفصل بيننا، فزاد عناده! وفي كل مرة أتصل فيه وأعرض حلا كان يزيد إصرارا، ويقول: “لو لم يكن لي حق عنده ما عرض الحلول ولا التسويات”! .. فانتهى الأمر بأن شكاني للقضاء!

وكّلت محاميا ولم أحضر أي من الجلسات الأربعة .. كان بعد كل جلسة يبعث لي برسالة يلومني فيها عن عدم حضوري، وفي كل مرة يتهمني بالمماطلة لتأخير الحكم .. أما أنا، فقد عزّ عليّ أن نتقابل وجها لوجه أما قاضي المحكمة حفاظا على ما تبقى من ماء وجه الصداقة الممتدة بيننا ردحا من الزمن!

في الجلسة الأخيرة، حكمت لي المحكمة بمال وفير .. وللحق، أكثر بكثير مما كنت أقدّر! أما هو، فقد استأنف القضية، فجاءت نتيجة حكم الاستئناف معززة للأولى .. بل وأكثر: المزيد من المال والتعويض، وكان الحكم هذه المرة قطعيا ..

مقالات ذات صلة

جاءني المحامي وألقى قرار الحكم على طاولتي وكاد يطير فرحا: “كسبنا القضية” .. شكرته وناولته ما تبقى من أتعابه ورحل مسرورا بما أنجز .. إلا أنا ..! شعرت أن سقف السماء سقط على رأسي .. ثقيل جدا سقف السماء! وبدل أن أحتفي بكسب القضية وإرجاع حقي (وأكثر)، شعرت بالحزن الشديد يعتريني .. سألت نفسي: “هل انتصرت حقا؟ وعلى من انتصرت؟!”

اتصلت بأحد الأصدقاء الذين حاولوا التوسط بيننا فيما مضى (وأخفيت عنه قرار الحكم)، وطلبت منه محاولة التوسط مجددا وعرضت تسوية بمبلغ من المال يساوي تقديرا نصف ما حكمت به المحكمة! وفي اللقاء بينهما، وافق صديقي على العرض دون أن يأتي للوسيط على ذكر شيء من قرار المحكمة، فحرر شيكا ماليا مكتوبا ووضعه بظرف مختوم وقال له: “هذه قدرتي الآن على الدفع، وسأرسل باقي المبلغ نهاية العام” ..

عادني صديقي الوسيط بالأخبار الطيبة مبتهجا مسرورا وناولني الظرف، فقدمت له الشكر والامتنان على ما أنجز .. وبعد أن صفيت لنفسي فتحت الظرف، وإذا بالشيك يحمل القيمة كاملة وبالمقدار الذي حكمت به المحكمة ولأقرب دينار!!

التقيت صديقي باليوم التالي، فتقاسمنا الغنم والغرم معا على طبق من الحمص مع الخبز المحمص وشرائح البندورة و .. كثير من ذكريات الشباب المغموسة بالفوضى والمحشوّة بعبث الأحلام !

صديقي الممتد عبر السنين يعرف الحق ويعيه، ولم أعهده أن حاد عنه يوما .. لكن زوجته (سامحها الله) لا تعرف ما الذي يعنيه طبق من الحمص مع الخبز المحمص وشرائح البندورة و .. كثير من ذكريات الشباب المغموسة بالفوضى ‏والمحشوّة بعبث الأحلام !‏

هي كذلك، ثمة أشياءٌ يكون فيها النصر هزيمة، والربح خسارة والبطولة أوهام ..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى