الإنحراف عن مقاصد التدين / د . هاشم غرايبة

الإنحراف عن مقاصد التدين
اكتشف الإنسان مبكرا أنه مدني بطبعه ، ولا يمكنه العيش إلا ضمن مجتمعات ، فبدأ البحث عن ضوابط صلاح المجتمع ، واجتهد الفلاسفة فوجدوا أن الإنسان مفطور على قيم الخير ، لكن فطرة حب البقاء وحفظ النوع أنشأت الأنانية والطمع ، فتولدت جراء ذلك النزاعات للإستئثار بمقومات المعيشة .
لم يجد المصلحون وسيلة فعالة للموائمة بين المصالح المتناقضة للأفراد داخل المجتمع ، ولا لتلك المتعارضة بين المجتمعات المختلفة ، رغم تركيزهم على استثارة قيم الخير ، فوجدوا أنه لا بد من الرادع والحافز ، فاخترعوا الدولة ، لكن المشكلة تفاقمت باستثارة شهوة الحكم والتملك والنفوذ .
عندها ، فهم الإنسان الدواعي الفطرية في نفسه التي تدفعه للبحث عن الإله ، لأنه ما من حل إلا بالرضوخ لسلطة قاهرة تفصل في نزاعات الأفراد ، ويمتثل لها الحاكم والمحكوم ، وهذه السلطة يجب أن تكون جبارة لا قبل لقوة بشرية بالخروج عليها .
ولما عجز العقل ، أنزل الله الدين على البشر : ” قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ” (البقرة: 38) ، تلبية للمتطلب الذي كان رسمه الخالق للبشر يوم خلقهم ، وما هيأهم له في سابق علمه وتقديره .
ولما كان من تلك المتطلبات ، أن يُعطى الإنسان الخيار في اتباع هذا الهدى ( الدين ) أو رفضه ، حتى تسقط الذريعة لمن عصى الرسل واتبع هواه ورفض الإلتزام بالمنهج القويم ، فيصبح التباين بين المؤمن والكافر بيّناً ، والحجة دامغة ، وعندما تنتهي فترة فرز الصالح من الطالح في الدنيا ، ويحل أوان الحساب ، والذي يختتم في معاقبة من اتبع رغبات البغي والفساد في المجتمع ، وفي مكافأة من كبح شهواته وغالب نزواته فبات صالحا في المجتمع .
هذه ببساطة هي فلسفة الحياة البشرية ، التي يترك فيها العنان للإنسان ليفعل ما يحلو له ، إما متحللا من الضوابط التي جاء بها الدين ، أو ليحتكم الى عقله وفطرته فيتّبع الدين .. وعندها يعتبر المرء متدينا .
من هنا نستنتج مقاصد الدين ، وهي باختصار : الصلاح والإستقامة . وجاء هذا في قوله تعالى : ” فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ” ( الكهف: 110 ) ، وفي قوله تعالى :” فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. ( هود: ( 112 .
لقد اشتط البعض في تفسير مقاصد الدين وتحميلها فوق ما وجدت له ، ومن أشهر أوجه الإنحراف :
1 – إكراه البشر على التدين : عندما خلق الله الإنسان منحه العقل مميزا عن سائر المخلوقات ، حتى يعرف الله بعقله وليس بحواسه ، وذلك معنى الإيمان ، والذي هو تحدٍّ عقلي ، ولولا وجود الكفر لما كان تمييز المؤمن ممكنا ، لذلك كانت الحتمية الوجودية البشرية بوجود هذه التضادية ، وعليه ليس ممكنا أن يؤمن كل البشر ، ولذلك خاطب الله عز وجل نبيه الكريم ( ص ) : ” وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ” (يونس: 99 ).
2 – التكفير : وهو أمر عانت منه البشرية على مر العصور ، وهو الحكم على الشخص المتدين بأنه مخالف للدين ، أغلب من لجأ إلى ذلك كان المتنفذون والحكام ، وهي التهمة الأسهل في حق المعارض أو المعيق لمكاسبهم ، وبالرغم من أن الله عز وجل لم يكلف أحدا بالتقصي والتحقق من كون المرء مؤمنا أو كافرا ، كما أنه لم ينزل نصا شرعيا بقتل المرتد ، إلا أن الحكام وأتباعهم استندوا الى هذه التهمة في التخلص من الكثيرين بقتلهم . القتل عقوبة قاسية حدده الشرع في حالتين : ” مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ” ( المائدة:32 ) .
يتبين لنا أن حد القتل محدد في هاتين الحالتين فقط ، والحدود لا يجوز فيها اجتهاد بل بالنص الواضح الصريح .
وحكم المرتد يؤول الى الله وهو الذي يجازي به ، وقد ورد في هذا الباب نصان قرآنيان يؤكدان ذلك : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ” ( المائدة: 54 ) ، وقوله تعالى : ” وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ” ( البقرة:217 ) ، وواضح من ذلك أن عقوبة المرتد يقيمها الله وليس البشر .
3 – الإكتفاء بالعبادات السهلة وترك المكلفة : فالصلاة والصيام والذكر والقيام وسائر العبادات الفردية سهلة على النفس ، أما العبادات المجتمعية فهي تحتاج كلفاُ ثقيلة في المال والنفس ، بدءاً بالزكاة ، ثم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فالجهاد دفاعا عن حق المؤمنين في الحياة الكريمة ، وعن حقهم في اتباع الدين .
4 – التدين الشكلي : أي الاكتفاء بأداء العبادات من غير تمثل معانيها في الصلاح والطيب من الأخلاق ، والإستغراق في الشعائر انطلاقا من حسابات تجارية محضة ، فهو يواصل الأعمال السيئة معتقدا أن عباداته تكدس له من الحسنات ما يزيد عن السيئات .
الدين أنزله الله تعالى ، ومن أتبعه فقد انتهج الصلاح والإستقامة ، وهما معيار التدين .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. كلام جميل وواقعي ولكن بالنسبة لهذه الفقرة فقد جانبه الصواب
    وحكم المرتد يؤول الى الله وهو الذي يجازي به ، وقد ورد في هذا الباب نصان قرآنيان يؤكدان ذلك : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ” ( المائدة: 54 ) ، وقوله تعالى : ” وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ” ( البقرة:217 ) ، وواضح من ذلك أن عقوبة المرتد يقيمها الله وليس البشر أقول
    المرتد اتفق الفقهاء على قتله للحديث من بدل دينه فاقتلوه وهو حديث صحيح صريح في صحيح البخاري في بيان
    حكم المرتد
    ولان الارتداد يسبب خللا بالأمن العام والنظام الاجتماعي.
    وهذا يخالف في الحكم الكافر الأصلي الذي يترك على دينه ولا يجبر عليه

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى