الحج / د. هاشم غرايبه

الحج

يستقبل المسلمون هذه الأيام الحجاج فرحين بقدومهم سالمين، ومستبشرين بقبول طاعتهم لله، فحمدا لله على أن أنالهم ذلك.
لقد أنعم الله على بني آدم برسالاته، وبين لهم أنه اصطفاهم من بين كل خلقه بالتكريم في حياتهم الدنيوية، إعدادا لهم للحياة الأخروية، والتي فيها حسن الجزاء لمن أطاعه واتبع هديه.
ولاستحقاق ذلك الجزاء ونوالهم فضله، فرض عليهم عبادته وفق أركان خمسة:
الأول: الشهادتان وهما الإقرار بالإيمان بالله إلها متفردا بالألوهية والربوبية، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا خاتما ، والشهادتان مقترنتان لا تنفصلان، وهما أساس العقيدة، لأنه بالرسالة الخاتمة أكمل الله الدين، وحدد المنهاج المقبول لديه، وبقدر الإلتزام به يكون الإيمان.
الركن الثاني: خمس صلوات تؤدى يوميا تشكل علاقة الإتصال الدائم بالله، وهي الدلالة العملية للتصديق بالإيمان.
الثالث: صيام شهر رمضان، والتي هي دورة تنشيطية سنوية لاستعادة زخم العلاقة الإيمانية.
الرابع: الزكاة وهي إخراج نصيب مما جمعه المرء من مال أنعم الله به عليه، فكفاه حاجته وفاض منه، فهي عبادة شكر وتقدير لله، وهي صلة بين الناس لتقوي روابط التآلف والمودة.
أما الركن الخامس فهو تتويج لكل ما سبق، وهو الحج الى بيت الله.
يقول بعض المفسرين ان فريضة الحج جاءت استجابة لدعوة ابراهيم عليه السلام، يوم أسكن ابنه اسماعيل وأمه، وحسب ما أمره به الله، عند المكان الذي كان فيه أول بيت لله، وكان ذلك المكان منطقة مقفرة، لا شجر فيها ولا بشر، إذ قال تعالى على لسان إبراهيم: “رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ” [ابراهيم:37 ].
لكن ذلك كان دعاء العبد المؤمن الأواب، الذي ترك فلذة كبده، الذي ما رزق به إلا عندما شاب، تركه في منطقة موحشة انصياعاً لأمر الله، ولكنه بشر تستحكم عاطفة الأبوة بوجدانه، فلم يكن بوسعه سوى التضرع لربه، مع أنه يعلم أن الله أراد بذلك أن ينشيء البذرة الإيمانية التوحيدية في هذه البقعة المقدسة، ودل على ذلك قوله تعالى: ” لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ”، فإقامة الصلاة غير أدائها، إنها الدعوة والنداء للناس بالصلاة، واختار الصلاة وحدها من دون العبادات الأخرى لأنها عنوان الإيمان.
ثم يظهر لنا أن الله تعالى قد أعلمه أنه من ذرية إسماعيل سيكون سيد الأنبياء وخاتمهم محمد صلى الله عليهم وسلم، وذلك بقوله: (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ)، الواردة في قوله تعالى:
“وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” [البقرة:127-129].
هكذا تتطابق رؤية الأنبياء ودعواتهم مع ما شاءه الله في سابق علمه وقضى به وأثبته في اللوح المحفوظ، لما ألقاه الله في علمهم، ولكنها ليست منشئة للقدر.
إننا نعرف أن الله فرض الحج على من استطاع من الناس، بقوله تعالى: ” وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] “، لذلك فالحج حق لله على عباده لما أنعم عليهم، وخص منها (عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)، والوارد في قوله تعالى: “وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ” [الحج:26-28 ].
لقد اكتشف العلماء مؤخرا أن أرض الجزيرة العربية كانت قديما مخضرة تجري بها الأنهار، وبها نشأ الإنسان القديم، لكن شاء الله أن تصبح أرض الحرم أرضا كلها رمال وجبال جرداء، لكي لا تكون زيارتها للسياحة والتمتع بخيراتها وجمال طبيعتها، فتبقى زيارتها بهدف تلبية نداء الله بالحج، لكنه عوض تلك الطبيعة الجدباء: “أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْء”ٍ [القصص:57].
لقد أراد الله من الحج أن يكون عنوانا لتصالح العبد من ربه، ولذا فمن أكرمه الله به، تسمو نفسه، فلا يجدر به أن يدع لعاعة من الدنيا تفسده.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى