يجب أن نزرع حديقتنا / د . ديمة طهبوب

يجب أن نزرع حديقتنا

بهذه الجملة ينهي الفيلسوف والكاتب الفرنسي فولتير روايته القصيرة كانديد التي تحمل اسم بطل الرواية والتي سخر فيها من فلسفة التفاؤل optimism والايمان بالقدر التي انتشرت في اوروبا في القرن التاسع عشر على يد الفيلسوف الالماني لايبنتز والتي تقول بأن الرب هو العالم الحكيم المسيطر الذي وضع نظاما محكما للكون cosmic plan وبالرغم مما قد يحصل من مآسي فكل شيء سينتهي الى خير All is good وليدعم رأيه في التسخيف من النظرية فإنه يسوق حدثا حقيقيا وهو زلزال لشبونة والتسونامي الذي تبعه حيث قضى أكثر من ١٠٠ الف شخص في يوم عيد القديسين ويتساءل عن رحمة الرب ولطفه في هكذا حدث وكيف يمكن أن يقضي على المؤمنين بالهلاك وهم يتقربون اليه؟! ثم تستمر احداث الرواية ويتعرض البطل نفسه بعد أن نشأ في رغد الى الطرد والتشريد وفقدان حبيبته ويبقى ايمانه مستمرا ينتظر الافضل وان الامور ستسير على خير كما يطمنئه استاذه بانغلوس ولكن كل اصدقائه ورفقائه يمرون بمصائب تهدم ايمانه فالنساء، ومن ضمنهن حبيبته، يغتصبن ويبعن كالرقيق والأهالي يقتلون والعالم المثالي كالالدورادو لا معنى له!
والقشة التي تقسم بقايا ايمانه يوم يقابل عبدا قد قطعت يده ورجله من خلاف وقد باعته أمه ليعمل في مزارع السكر حيث لاقى هذا المصير وعندها يقول كانديد لأستاذه بانغلوس: «لم يمكن لك أن تتصور هذا الحادث المروع. لقد وصلتُ خط النهاية، لن أؤمن بفلسفة التفاؤل بعد اليوم فما هي أكثر من جنون الاصرار على أن كل شيء بخير بينما الواقع أن الأمور تسير نحو الهاوية!».
ثم يتابع رحلته ليجتمع مع حبيبته ويعيش مع اصدقائه ولكن لا أحد منهم يحس بالفرح ولا بالسكينة ولا بالانجاز وتستمر الرحلة يحدوها قناعة الشك الديكارتية فلا رب موجود ولا ايمان ينجي ولا أمل في المستقبل ثم يقابل كانديد وجماعته مزارعا تركيا يدلهم على خيط النجاة فيقول لهم: «لدي عشرون هكتارا ازرعها مع اولادي وهي تبقينا بعيدين عن الشرور الثلاثة: الملل والكبائر والحاجة!».
وينهي كانديد الرواية بجملة مبهمة: «يجب أن نزرع حديقتنا»، فلا هو بقي مؤمنا ولا أنقذه الكفر من جحيم الشك والأسئلة التي تعتمل في صدره ولا يستطيع اجابتها مهما سافر وعايش وجرب فمعرفته تظل قاصرة!
وبالرغم ان فولتير كتب الرواية للسخرية من الدين والايمان واهل الشرق وايمانهم بالقضاء والقدر خصوصا، الا ان موضوعها قد يعترض للناس جميعا في حال البلاء والمصائب التي لا نستطيع لها فهما ولا قبولا ولا دفعا مع ضعفنا، فتجعل بعض ضعاف الايمان يتساءلون عن وجود الله وصفات رحمته والحكمة من توالي العذاب والمصائب ويغفلون عن قراءة المشهد الأكبر ودور البشر في صناعة القضاء وتغييره وسنة الله في الكون في التغيير والعمار والدمار والازدهار والنهضة والاستبدال والإمهال التي انطبقت على كل حضارة بشرية اذا وجدت معطياتها قوة وضعفا، فالسنن لا تفرق بين مؤمن وكافر، وينجو من الغرق من يعرف السباحة لا من يعرف الصلاة، وتقوم الحضارة ولو مرحليا الى أن يضربها الفساد الأخلاقي، على أكتاف من يعملون ويعرقون لا على سجادة المصلين فقط ولا على دعائهم! وبذا تكون الهزائم، حتى الهزائم، من صنع أيدينا لا من قدر الله علينا فبقاء الظالم هو الذي يرمل النساء ويقتل الرجال وييتم الاطفال ويهدم البيوت ويرده من كان يملك قوة عسكرية تزيد قوة بتأييد الله.
الرضى بالقضاء والقدر ليس حالة ضعف ولا استكانه فالايمان حالة قوة وتعال وصمود مهما بلغت التحديات فهو يجمل الانسان بالصبر ويدعوه الى استنقاذ نفسه من حالة الذلة والا غدا مفرطا قاعدا متخاذلا مستحقا لمزيد من العذاب
الايمان حالة قوة في أتون الضعف ولا ايمان بغير عمل ومن ظل ينتظر تغير الاقدار على قارعة الطريق سيظل متسولا صدقة عون تنقذه او قدم عدو تسحقه ومن لا يتحكم في حاضره يفقد السيطرة على مستقبله.
يجب ان نزرع حديقتنا ثم تمطر علينا السماء فالله يساعد من يساعدون أنفسهم فقط.
لدينا ايمان مطلق برحمة الله وحكمته ولو غرقت البشرية كلها وما بقي الا ركاب سفينة تستوي على الجودي ولكن لرحمته موجبات كما جاء في الدعاء «موجبات رحمتك» فلا بد من استنفاذ الوسع في بناء سفينة النجاة وتحميل الركاب ثم تأتي المعونة في فلق البحر ويغرق فراعنة العصر كما غرق الفرعون الأول.

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى