هل ما زال تدريس الفلسفة جدليا؟

هل ما زال تدريس الفلسفة جدليا؟
الدكتور ذوقان عبيدات

تم إقرار منهاج رياض الأطفال لمادة الفلسفة للتوجيهي في منتصف الستينيات من القرن الماضي، واندفع مئات الشباب والمعلمين لدراسة الفلسفة في جامعة دمشق، حيث صار لدينا معلمون للفلسفة. تمت إعارة أعداد كبيرة منهم إلى المغرب، حيث قادوا حركة فلسفية ناجحة.
كما أن عددا كبيرا من طلبة التوجيهي الأردني، لجؤوا لدراسة التوجيهي المصري في مدارس أردنية خاصة حيث كان يحوي مادة الفلسفة والمنطق وعلم النفس.
وبذا كانت الفلسفة مادة دراسية لها كل مقومات النجاح: منهاجا ومعلمين وقبولا رسميا وقبولا مجتمعيا.
ولأسباب غير واضحة، تم إلغاء مادة الفلسفة في العام 1976 والعودة إليها العام 1992، حيث تم تأليف كتاب في الفلسفة والمنطق أقره مجلس التربية، وفجأة – ولأسباب أنا أعرفها- تحولت مادة الفلسفة والمنطق إلى وحدتين في كتاب الثقافة العامة – وركزت الوحدتان على مهاجمة الفلسفة والعلم بدلا من حفز الفلسفة، وقيل حرفيا في الكتاب: العلم دمر الإنسانية، وزاد من تفكك الأسر ورفع نسبة الطلاق، أما الفلاسفة فقد وجه لهم نقد شديد.
كان لي شرف نقد هذا الكتاب الذي استمر من 1992 – 2016.
حيث ألغي الكتاب نهائيا، بعد أن تنبهت الدولة لا – الحكومة – إلى داعشية هذا الكتاب، وبذلك تعادل الموقف: لا مع الفلسفة ولا ضدها.
ولكن ليس هذا هو المطلوب! المطلوب تقدم واضح صريح نحو تدريس الفلسفة، ويشير الواقع الأردني حاليا إلى عدد من الوقائع، أبرزها:
1. اهتم الإطار العام للمناهج الصادر عن المركز الوطني لتطوير المناهج 2020 بتدريس التفكير الفلسفي والتفكير المنطقي.
2. أبدعت وزارة الثقافة بقيادة مشروع مهم جدا في تطوير الاهتمام بالفلسفة والفكر الناقد من خلال التخطيط لإصدار ثمانين كتابا في الفلسفة الحياتية والفكرية.
3. تعمل وزارة الشباب على إنتاج منهاج لبناء الشباب حيث اعتمدت مهارات التفكير الناقد بما فيه من تحليل وتأمل وتساؤل وشك كأحد أسس هذا المنهاج.
أما الواقع العربي فيشهد تطورا واضحا في تدريس الفلسفة، ففي معقل التطرف والانغلاق، اتجهت وزارة التربية السعودية إلى تدريس الفلسفة والتفكير الناقد في مناهج مدارسها مركزة على القيم الآتية: حرية التفكير، تعدد أوجه الحقيقة، أهمية البحث عن الحقيقة، بناء تفكير يرفض التسليم والموافقة والقبول والاعتناق لما يدور من معلومات وحقائق على أنها مسلمات وثوابت فلا بد من فحص كل ما يدور وإثارة أسئلة نقدية حوله.
وفي الإمارات تم إقرار تدريس الفلسفة والمنطق بدءا من العام الدراسي المقبل.
قد يتبادر إلى ذهن البعض أن هذه إملاءات، لكن من يعرف الواقع الخليجي، يدرك مدى الاستلاب الذي بناه الفكر المتطرف في شخصيات الناشئة، وعلى أي إن دراسة الفلسفة أو تدريسها لم يكن يوما ما إلى حماية الحرية والتفكير من الظلام، بل ان الإملاءات الأجنبية تميل لصالح بقاء الجهل والانقياد والقبول الأعمى.
فالفلسفة على مدى التاريخ كانت تنويرا ولذلك كانت متهمة من قبل حراس الثبات والمسلمات!!
وفي مصر تم تطوير منهاج متكامل للفلسفة والمنطق وعلم النفس وعلم الجمال يستند إلى: رفض الفكر التقليدي الاجتماعي ووضعه تحت الشك من أجل إعادة فحصه، تكوين وبناء التفكير الفلسفي لدى الطلبة كأساس لحياتهم، التعرف إلى وجهات النظر المختلفة في تحليل الأمور وعدم الاكتفاء بتفسير أحادي، التمييز بين أنواع التفكير: العلم، الدين، الفلسفة، التكنولوجيا، مشكلات الإنسان والفن والجمال، وفي لبنان وسورية مناهج للفلسفة بهدف إعلاء قيمة العقل وبناء حرية التفكير.
أما في العالم، فلا نقاش حول أهمية الفلسفة.
فلسفة في مناهجنا! لماذا؟
هذا موضوع لا يشكل خطرا لا علي ولا على غيري. فالفلسفة والمنطق والتفكير صارت قضايا واضحة علينا اجتيازها، وسأتحدث في هذا الجزء عن: أهمية الفلسفة ولماذا؟، ماذا تدرس فيها وما محتويات مناهجها؟، هل لدينا معلمو فلسفة؟، ما مواصفات منتج دراسة الفلسفة؟.
لماذا الفلسفة؟، يبدو أن من المهم أن نسأل: لماذا لا نريد الفلسفة؟.
ان معارضي الفلسفة، عبر التاريخ، أصحاب الثبات والتسليم بالواقع والحنين إلى الماضي. ولذلك كانوا وحدة متماسكة هدفها إعاقة التقدم والقضاء على الفكر الفلسفي وأصحابه. وبذلك كان الفلاسفة عبر تاريخنا بل عبر تاريخ الفكر القديم أعداء للجهالة: لقد أعدم سقراط، وحوكم جاليلو، وأعدم عدد كبير من المفكرين المسلين وأحرقت كتب، وسالت دماء فلاسفة وكتاب ومفكرين وشعراء للسبب نفسه. وقيل كم مفكراً قتل فتوى وكم من مفت أُنقذ بفعل مفكر استخدم عقله.
قد يبالغ أنصار الفلسفة بذكر فوائدها، بينما يقلل أعداؤها من أهميتها ويبالغون في سلبياتها: قالوا للفلسفة عبث الفكر وطريق الضلال، أما المنطق فهو مدخل الفلسفة ومدخل الشر شر. ولكن بعيدا عن المساجلات. الفلسفة هي السؤال والبحث ولذلك لا عقيدة لها، لأنها تنمي الفكر ليكون قادرا على الاختيار. وشتان بين دارس للفلسفة يسأل ويبحث ويشك وينقد. وبين رافض لها يستسلم ويقبل ويسلم بما يقال له. فالفلسفة تحرير للإدارة والعقل من السكون والجمود. وربما من المؤسف أن يضطر أحد للدفاع عن الفلسفة.
أي فلسفة نريد؟، إن الفلسفة كانت في الغالب بحثا ما وراء الأشياء وغاصت في قضايا سفسطات نظرية، حتى جاء سقراط وأنزل من السماء إلى الأرض بمعنى جعلها تركز على الحياة وقضايا الإنسان. ولعل ما نريده. إن غاية الفلسفة ليست في إنتاج فلاسفة، بل حفز للطلبة على استخدام عقولهم. ولذلك ترتبط الفلسفة في المدرسة بالعقل وحل مشكلات الحياة، والبحث عن تحسين الحياة، ولذلك نتوقع من دارس الفلسفة أن يمارس السلوكات الآتية: يستخدم استراتيجيات التفكير المنطقي والتفكير الناقد، يميز بين التفكير الفلسفي والتفكير العلمي والتفكير الديني، يمارس النقد والتأمل والفحص في حياته العملية، يبحث عن أسباب الأحداث، يفكر في المستقبل، يبحث عن الأدلة والبراهين، يلتزم بموقف أخلاقي، يمارس خطوات البحث العلمي، يستخدم مصادر المعرفة المتنوعة، يميز بين المعرفة الحسية والعقلية، يستوعب دور الفلسفة والفلاسفة في بناء الحضارة، يتذوق العمل الفني والعمل الجمالي، يلتزم بقيم الحق والخير والجمال، يميز الموقف القانوني والأخلاقي والديني.
ولذلك فإن الفلسفة التي نريدها هي بحث في حقائق الأشياء والقدرة على استخدام العقل. وهذا يتطلب ما يأتي: أن يتقن الطلبة مهارات التفكير بأنواعه من خلال مناهج جميع المواد الدراسية وجميع الكتب وجميع الصفوف، فالتفكير أو الفلسفة مفاهيم تتخلل هذه الكتب جميعها، ولذلك يمكن البدء بتدريس الفلسفة من الروضة وحتى الصف العاشر بشكل مهارات تفكير ناقد ونصوص فكرية تتخلل المواد المختلفة.
ان يفكر الطلبة بطريقة فلسفية، وهذا يتطلب أن يكون كتاب فلسفة مستقلا للصفين الحادي عشر والثاني عشر.
ان الاتجاه العالمي والإقليمي والعربي لتدريس الفلسفة يتطلب منا العمل المشترك: التربية، المناهج، وزارة الثقافة، وزارة الشباب ليكون لدينا مشروع فلسفي متكامل. إن دراسة الفلسفة تتطلب إعداد معلم الفلسفة ومناهج الفلسفة ولا يجب التوقف عند حدود الرافضين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى