مظاهر الرحمة في سورة مريم “١”

مظاهر الرحمة في سورة مريم “١”
عبد اللطيف مهيوب العسلي

ولأنه من أهم مميزات وأغراض سورة مريم أنها طُبِعَتْ بطابع الرحمة ,فقد تبين لنا ذلك من خلال خمسة مشاهد تناولت قصة زكريا ,و مريم وعيسى ,وإبراهيم واسماعيل , وموسى وهارون , وإدريس عليهم السلام جميعا , كما برزت سمات الرحمانية والرحيمية من خلال ورود ذكر اسمه الرحمن في عشرين موضعا منها , ونصيب بقية السور تقريبا ما يساوي هذا العدد إذا استثنينا” بسم الله الرحمن الرحيم”, وورود ذكر الرحمة صراحة في أربعة مواضع منها ,وورد مرادف الرحمة في ستة عشر موضعا منها .
إن تجليات الرحمانية تبرز بصورة واضحة بلطفه ومنه على خاصة عباده بطريقة خارقة للعادة ومبينة للقدرة الربانية القاهرة للزمان والمكان والأسباب والمسببات ,وتبرز لنا فيها تجليات الرحيمية الإلهية لخاصة عباده وعامتهم ,فمن فيض رحمانيته على خاصته فاضوا بها على غيرهم ,ومن فيض رحيميته على عامة عباده وجميع خلقه تراحموا فيما بينهم وظهرت رأفة. الأم بأطفالها من الناس والأنعام والمخلوقات بمختلف أجناسها .
فالخاصة من أنبيائه وأوليائه ,برحمانيته قاموا ,وبلطفه ورأفته وعطفه أصبحوا وناموا ,فقبلوها وحملوها إلى غيرهم .
..
*المشاهد الخمسة لمظاهر الرحمة في هذه السورة.
١ – في قصة زكريا حدثتنا السورة عن رحمته بعبده زكريا بإجابة دعائه وبرحمته بحيا .
٢- وقصة مريم وعيسى عليهما السلام حدثتنا عن رحمته بهما ,
٣ – وفي قصة إبراهيم وابنه اسماعيل عليهما السلام حدثتنا عن جوانب هذه الرحمة .
٤ – وعن رحمته بموسى وهارون عليهما السلام .
٥ – وعن رحمته بإدريس ومَنِّهِ ورحمته على مجموعة من الناس .
وكل هؤالاء كانوا مفتقرين لرحمة الله أمّا لنيل مطلوبا وأما لدفع مرهوبا , وأما لحل معضلات المجتمع فما من شك أنهم كانوا يحملون هم المجتمع , وكان لهم مشاكل في أسرهم ومجتمعاتهم فرحمهم ،فما أحوجنا – نحن – اليوم إلى رحمته وقد سقطنا في وحل المشاكل والمعضلات ,وما أحوجنا إلى رحمته وقد أحدقت بنا المخاوف وضاقت بنا الحيل ,وضل المسلك وعمي الطريق ,وبلغ بنا السوء مبلغه, أفلا نؤمل على الله كما أملوا ونناديه كما نادوا وندعوه كما دعوا ونستغيث كما استغاثوا ,فليس رحمته مخصوصة لخاصة خلقه ومن طاعه من عباده ,بل رحمته مبذولة لكل معترف بقدرته مستغفر لذنبه مقر بعجزه ,ومن لديه شك فما عليه إلا أن يمعن النظر بهذه الآيات وأمثالها ….
فمن يمعن النظر في هذه الآيات سيجد أنها فتحت لنا بابا من أبواب رحمته فبداية قدمت لنا تجربة عبده زكريا :
1 ذكر رحمة ربك عبده زكريا
من الآية “1” إلى آية “11” قال تعالى :
( بسم الله الرحمن الرحيم * كهيعص “1” ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۚ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
فيا لها من تعاليم عظيمة تعلمنا كيف يعرض العبد الفقير حاجته على ربه الرحيم الحنان الكريم المنان ? كيف يسبب ويبرر طلبه لا بطرا ولا تكبرا ولا عبثا , ولا تعديا .
علمتنا الآيات كيف نادى ربه زكريا ,مفسرا ما تقتضيه حاجته الدائمة المعروضة عليه , وما تقتضيه فاقته اللازمة المشيرة بلسان حالها إليه , بسره وجهره ( إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) وبناطقه وصامته,وشعره وجلده ,وعظمه ولحمه , وماضيه ,وحاضره ,ومستقبله ,وحيه ومماته فقال : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا , وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا ) فيا إلهي الكريم ويا ربي الرحيم , إن كل ما تقتضيه حاجتي الدائمة معروضة عليك , وإن ما تقتضيه فاقتي اللازمة مشيرة بلسان حالها إليك ,ها أنا ذا بناطقي وصامتي بوهن عظمي وشيب رأسي ,فقدت السند والوريث وخفت الموالي في حال المشيب , يا إلهي الكريم الحنان ,ويا ربي الرحيم المنان, ها أنا ذا بين يديك ,بكل ما أنا من الفقر أهله إلى كل ما أنت من الكرم أهله,
وبكل ما أنا من الضعف أهله إلى كل ما أنت من القدرة أهله
فجل جلالك, وعظم شأنك, وعز سلطانك, وتعالى قدرك ,وتقدست أسماؤك أن أكون بدعائك ربي شقيا, فمن الذي سألك فرديته ? أم من الذي أمل عليك فخيبت أمله ?
أم من الذي وفد إليك فطردته (فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربي رضيا )فكان جواب ربه السميع المجيب الكريم الحنان الرحيم المنان ( يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا (7)
فأدهشته الهيبة فتعجب وطاش من فرحة الإجابة فسر واستفسر, فانتقل بسؤاله من عالم الغائب عن النظر إلى عالم الحاضر المشهود بالبصر المتعلق بالزمان والمكان ( قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
فأجبته القدرة الإلهية بلسان القوة المطلقة
( قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)
ثم سأل ربه زكريا أن يجعل له علامة تحق الحمل بالولد, ليبادر إلى التسبيح إقرارا بعجزه واعترافا بقدرة ربه, ويتعجل الحمد والثناء سرورا وشكرا للنعمة ( قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۚ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11))
ثم تناولت الآيات التالية جوانب رحمته تعالى على يحي عليه السلام يقول سبحانه ( يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) ) بالتامل بالآيات السابقات نجد أنه ورد فيها من الأفعال والأقوال ما روعي فيها ما يحمل معنى ومرادفات الرحمة ( الحنان والبر والزكاة والتقوى والرأفة التي نستنتجها من قوله تعالى ولم يكن جبارا عصيا أي كان رحيما رؤوفا , والسلام عليه , ) وكلها تفيد رحمة الله بيحيا ثم رحمة يحيا بغيره .
المشهد الثاني: قصة مريم وعيسى عليهما السلام
من الآيات (15 ) إلى الآيات (33 )
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21) ۞ فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) }
نجد هنا وقد تناثرت نجوم الكلمات الدرية من جوانب الآيات الرحمانية لِتَخْفُقَ بالرأفة والرحمة على مريم وعيسى عليهما السلام بدأ بالروح “فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ” , والروح من تلك الرحمة , وتوسلت بدعائها بالرحمن فقالت إني أعوذ بالرحمن ….
فتسمية الملك بالروح وإضافته إلى الله على سبيل المجاز ليناسب القرب والرحمة كما تقول أرسلت لحبيبي روحي وبنفس الطباق والجناس والتعجب بعظمة القدرة قال هنا ( قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21)
ورحمة على رحمة تختلف فمن رحمة الله إجابة الدعاء كما في زكريا فقد وهب له ولدا مع كبر سنه ويأس زوجته فقبول هذه الرحمة مسلم بها وقبولها محبوب ,وأما هنا فقد نالت مريم عليها السلام رحمة الله قبل أن تطلبها , أو تدعوها شدة الحاجة للولد ,ومع ذلك حين علمت أن الله هو الذي اختارها أن تكون مستودعا لهذه الرحمة استودعتها ولم تودعها ,وقبلتها ولم تقابلها وترفضها ,وحملتها ولم تتخلى عنها .
وكما في قصة زكريا روعي فيها معاني الألفاظ التي تخفق بالرأفة والرحمة جاءت هنا رقيقة لطيفة تتناسب مع نداء الحبيب لمن يحب, ومع الرحمة والرأفة وخاصة وقت الحاجة إليها في أحلك الظروف وهي تتمنى أن لو كانت ماتَنْ أو كانت نسياً منسياً إذا بالجنين الذي لا زال في المخاض ينطق وتسمع كلامه يناديها نداء الحبيب لحبيبه ونداء الولد الرحيم باﻷم الرحيمة( فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26)
فيتحول المشهد بطرفة عين وبالقول المنجز للوعد إلى جنة خضراء مزينة بالرطب والماء والأكل والشرب والطمأنينة فمن بيده ملك السماوات والأرض هو من أنطقه فكيف لن تقر عينا .وتطيب نفسا ? …… …..
المشهد الثالث قصة إبراهيم ورحمته بابيه :
نكمل في موضوع (مظاهر الرحمة ” ٢ ” ) إن شاء الله ..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى