مدينة الدهشة !!!!!! / خلود المومني

مدينة الدهشة !!!!!!

وأنا أجوبُ اليومَ ذاكرتي بحثاً عن تلك اللحظةِ المضيئةِ التي يمكن لي أن أنطلق منها للحديث عن علاقتي بهذا المكان، شقَّت ابتسامةُ رضا كُوَّةَ الذكرياتِ المكدَّسةِ كدفاتر تلميذاتي، بانتظار تصحيحها ووضع العلاماتِ عليها. فلقد عرفتُ من أين سأبدأ، إذ أن تلك اللحظةَ الاستثنائية كانت هي بدايةَ عمري الحقيقية، ونقطةَ انبثاقِ ذلك الجدولِ الذي أخذ يجري ويجري، مترقِّقاً وعلى هَوْنٍ حيناً، ومتدفقاً وعلى عجَلٍ أحيانا، إنَّما متوجِّهاً دائماً إلى مصبِّه الطبيعيِّ المقدَّرِ له.

لقد كانت تلك اللحظة هي الخطوةُ الأولى في مسيرةِ حياةٍ حافلةٍ بالعطاءِ والنَّماء، وكانت هي نفْثةُ السِّحرِ التي جعلت الحلمَ حقيقة.

إستيقظتُ صباحَ ذلك اليومِ البعيدِ على خبرٍ سيقلب حياتي رأسا على عقب. أو لعلَّ الأصحَّ هو أن أقولَ: خبرٍ سيجعل حياتي تستوي على قدميها مثلما كنتُ أرجو، ومثلما كان ينبغي لها أن تكون.

مقالات ذات صلة

أيقظتني أمي باكراً، وكان من عادتها أن تحضرَ جريدةَ “الرأي” من الدكانِ المقابلِ لمنزلنا وتقرأَ عمودَها المفضل. نعم، كانت قد أحضرتها في ذلك الصباح، وقرأتْ، فشهقتْ، ثم جاءتْ إليَّ مسرعةً وهي تنادي عليَّ بصوتٍ يندفعُ كموجةٍ فَرِحة: “خلود…إصحي، إصحي، إسمك في الجريدة. عيَّنوكِ في العقبة”!

ونهضتُ. بل لأقُلْ: قفزتُ من فِراشي. فهذا يوم ليس كأيِّ يوم. ولا يدركُ معناه إلا مَن انتظرَ أن يتحقق كَ له حلمُ الليلةِ السابقة، ثم صحا، فوجده قد تحقق.

العمل. العملُ في التعليمِ كان هو حلمي بالفعل. أما العقبةُ فقد كانت فوق مستوى طموحي يومَها. لم أكن أتخيلُ أبداً أنني قد أذهبُ من بلدةِ “صخرة”، ساكنةِ الجِبال في منطقة “عجلون” بأقصى شمال المملكة، إلى مدينةِ “العقبة”، جارةِ البحرِ في أقصى الجنوب، لأعمل فيها معلمة.

العقبة، تلك المدينة التي كان ابنُ عمٍّ لي قد سبقني إليها بخمس عشرة سنة. وأذكر أن أمه كانت قد ودعته يوم سفره بالدموع، وكأنه ذاهب إلى آخر الدنيا، أو كأنه – لا قدَّر الله – كان سيرحل دونما أملٍ بالعودة. فكانت دموعُها تُبلِّلُ نصائحَها له بضرورة الانتباهِ من أخطار الطريق، “طريقِ الموت”، حسب وصفها، لأن “الطريق الصحراوي” المؤدِّي إلى “العقبة” كان حينذاك متعرِّجاً، وضيِّقاً، وحوادثُ السياراتِ فيه كثيرة.

العقبة.
ما إن ذُكر اسمُ المدينة أمامي حتى تراءى لي البحر بنسيمه وصوته ورائحته. ولا أدري من أين أتتني رائحته وأنا لم أشاهده في حياتي من قبل!

كان عليَّ أن أراجع المديرية في “العقبة” خلال يومين، وإلا فسأفقد حقي في التعيين. جهزت حقيبتي بسرعةِ مَن يخشى أن تفوته رحلةُ الطائرة. وضعت فيها بعض الضروريات، وبقايا جراحٍ وندم، وشيئاً من شوقٍ وحنين سأعود بهما إلى بلدتي لاحقاً. ووضعتُ فيها الكثيرَ من ذاتي، والكثيرَ من أختي الصغيرة التي كانت متعلقة بي تعلُّقاً كبيراً. ووضعت فيها كلَّ أحلامي.

ودعتني أمي بنفس دموع زوجة عمي عندما ودعت ابنها من قبل، وانطلقتُ إلى المجهول وحدي. فقد تعودنا منذ الصغر أن نعتمد على أنفسنا في كل شيء.

إتجهتُ إلى “العقبة” تغمرُني سعادةٌ لها مذاقٌ مختلف، سعادةُ مَن ينتظرُ دخولَ عالمٍ مجهولٍ، وساحرٍ، وبعيدٍ بما يكفي لتحقيق هذا الشعور المدهش من السعادة.

لم يكن يشغلني إلا شيءٌ واحد لا غير، وهو أني أريد أن أنطلق. أن أنطلق وحسب. ولأول مرة، بدأتُ أشعر بالانعتاق، الانعتاق من كل شيء، حتى من نفسي. أريد أن أتحرر من روحي العتيقة التي سكنتني زمنا طويلا. ولم يكن في مخيلتي إلا الغد، الغدُ باتِّساعِهِ وامتدادِه، وبالهدفِ الذي كنتُ رسمتُه لنفسي، والحلمِ الذي يشبه أحلامَ كلِّ من ارتحلوا إلى أقصى الجنوب يحملون في حقائبهم أحلامَهم الجميلة، وعلى أكتافهم عبءَ حياةٍ جديدةٍ لم تبدأْ بعد، وفي قلوبهم حبَّ بلدتهم الصغيرةِ الحنونة، ووطنِهم الكبيرِ الغالي.

وكانت الدهشةُ هي رفيقي الوحيد.

لم أتخيل أن الطريق طويل هكذا. لابد أن ذاك الرجل الذي كنت أسأله كل حين عما تبقى من الطريق قد لعن الساعة التي جمعته بي في حافلة واحدة.

وبعد رحلةِ الألفِ ميلٍ التي بدأتْ بتلك الخطوةِ المستهمَّةِ في “صخرة”، وصلتُ إلى “العقبة”. وما أن نزلت من الحافلة حتى لفح وجهي ذاك الهواء الساخن جداً الذي جعلني أظنُّ أن هناك حريقا ما في الجوار وصلتني منه هذه النفحات الحارقة.

وجدت ابن عمي في انتظاري. أخذني إلى بيتهم. فرحتُ بلقاءِ عائلته كفرحي بمجاورةِ البحرِ الآن. قضيت ليلتي عندهم. وفي الصباحِ طلبتُ منه أن يدعني أتمم أموري وحدي دون مرافقته. وهكذا كان.

دخلت مديرية التربية ، وسألت، واستكملتُ إجراءات التعيين. وحددوا لي مكان العمل في “الديسة”. واستغرقت الرحلةُ من “العقبة” إلى “الديسة” ساعةً ونصفَ الساعة. وحين وصلتُها داهمني فجأةً شعورٌ بالغربة جارح، وسرى في جسدي إحساسٌ بالبرْدِ غامض، ووجدتُ الصورةَ الزاهيةَ التي كنتُ قد رسمتُها في مخيَّلتي قد أمستْ داكنةَ الألوانِ مشوَّشتَها. ولم يكن ليهوِّنَ عليَّ هذه الغربةَ إلا هاني شاكر. أسمعه وأبكي. وأتساءَل: ما الذي فعلته بنفسي؟ كيف وافقت على المجيء إلى هذا المنفى؟

لقد اعتدت أن تكون أطولُ مسافةٍ أقطعها بين قرى عجلون هي بمقدار بستانينِ أو ثلاثة، أو غابةٍ أو بِضْعِ غابة، ترافقني خلالها على الطريق ابتساماتُ الأشجارِ المتمايسة، وتغاريدُ الطيورِ المتقافزةِ فوقَها.

وأنا الآن في “الديسة”!

كانت ليلتي الأولى في السكن لا توصف: تعباً ووحدةً وندماً، وشوقاً وحنيناً، ومشاعر أخرى. حتى أنني عزمتُ على أن أسعى قريباً للانتقال من هناك إلى منطقة عجلون.

ولكني في اليوم التالي عدتُ فشدَدْتُ أزْري، وحدثتُ نفْسي فقلتُ: لا بأس. سأتحمَّل. سأصمد. وسأُبقي عيني على الهدف والحلم. فكثيرون هم أولئك الذين حملوا أحلامهم – مثلما فعلتُ الآن – ورحلوا بها إلى الأرض الموعودة. جابوا بها ربوع الأردن كلِّه، ثم ألقوا عصا الترحال في العقبة لتغسل مياه بحرها تعب الطريق وكد السنين. قالوا عنها إنها مدينة لا تنام، وأن المرءَ يستطيع فيها أن يبنيَ فيها حياتَه ويحققَ أحلامَه، وأن يُنشىءَ فيها علاقةَ مودَّةٍ مع بحرها وبَرِّها. وهوَّنتُ على نفْسي الأمرَ فقلتُ: إنِّي لم أشاهد حتى الآن إلا بقعةً في الصحراء فيها بركةُ ماءٍ تسمى البحر. وهذه ليست هي كلُّ العقبة. القادم لا بدَّ أرحبُ وأجمل.

وفي أول أسبوع لي في مستقرِّي الجديدِ سهرتُ مع أقاربي على شاطىء البحر، لأول مرة في حياتي. أحسستُ أنه يفتح لي ذراعيهِ مرحِّباً، وأنه يحدَّثني، ويرسلُ إليَّ هواءَهُ الدافىء كعربون صداقة. وفي الأسبوع الأول كذلك زرتُ الكرك، لأول مرةٍ في حياتي أيضا، وأحببتُها وأهلَها. وسافرت في الصحراء فسحرتْني. وقمت بأشياء كثيرة كنت أجربها لأول مرة. فعادتْ نفْسي تستقرُّ، وعادَ التفاؤل يملأُ عينيَّ. ومن جديد، رجع إليَّ الإحساسُ بالدهشةِ، دهشة المكانِ والزمان، المكانِ الجديدِ المتفرِّدِ بجماله، والزمانِ الذي هو بدايةُ مرحلةٍ جديدةٍ في حياتي، مرحلةٍ العمل والأمل. نعم. وقلتُ لنفسي: “إنبسطي” يا خلود. فلقد تحقق أخيراً حلمُكِ الذي رعيتِهِ طَوالَ سني عمركِ السابقة.

وهكذا كان. فقد “انبسطتْ” خلود، وبدأتْ تعشقُ المكان.

نعم. بدأتُ أعشق المكان والناس، والهواء والماء. ورغم سخونة الهواء، فقد أدمنتُه، وكأنَّ فيه سراً غريباً لا يُقاوَم. أما الماء فقد ألفيْتُ له مذاقاً مميزاً يرويني أكثر مما ارتويت من كأس ماء يوما. ووجدتُه ناعماً وحنوناً على الشَّعر والبشرة، وهذا الأمرُ كان بالطبع هو أكثرُ ما يَهُمُّ صبية في عمري آنذاك.

وبعد أن كانت فِكرةُ الانتقال بسرعة إلى “عجلون” قد راودتني في ليلتي الأولى، فقد باتت تخيفني. فبعد أن سكنتُ “العقبة” وأحببتُها، وتوطَّدتْ علاقتي بها حدَّ العشق، باتت هي التي تَسكنُني الآن. ولم أعد أتمنى إلا أن أمضي حياتي كلَّها فيها. وكلما ألحَّتْ عليَّ والدتي لأجد لي “واسطة” تساعدني على الانتقال منها إلى “عجلون”، بت أدَّعي لها أنِّي لم أجد “واسطة”، بينما أنا لم أقدم طلباً للنقل أصلاً.

وشاءت الأقدار أن ارتبط بإنسان عمل حديثا في العقبة. وأحبها كما أحببتها. وبات يرسم أحلام المستقبل فيها. ثم بدأنا برسم مستقبلنا معا. هذا المكان الذي جئناه وكان شبه صحراء، تحول سريعاً إلى حديقة غناء. وباتت المباني الجديدةُ الشاهقةُ تنهض، تعانق السماء وجذورها في الأرض، وامتدَّت الشوارع والطرقُ واتَّسعتْ، وغدتْ مشجَّرةً ونظيفةً وزاهية، وقامتْ إسكانات هادئة وحدائقُ بهيجة، لا يخترق هدوءَها إلا مواء قط أو حفيف شجر الكينا. والمياه متوفرة بكثرة، فلا أُضْطَرُّ لانتظارِ يومِ الإثنين من كل أسبوع لغسل الملابس وتنظيف المنزل. ومياه الشربِ نقيةٌ عذْبة، تَفُوقُ في ذلك مياهَ الينابيعِ التي لا أثق بها كثيراً. والخدماتُ متاحة دائما، وقريبة جدا، خمس دقائق فقط وأصل إلى أيٍّ منها. أما بحرُها، فهو قصَّةٌ قائمةٌ بذاتها.

كنا نذهب إلى “عجلون” من حينٍ لآخر لقضاء أسبوع إجازة. وكم من مرة قطعنا تلك الإجازة وعدنا إلى “العقبة” لنتنفس هواءنا، ونستمتع ببحرنا، ونجوب شوارعنا التي مهما اشتدت فيها أزمةُ السير فإنها تبقى هادئة ومنظمة ونظيفة. نستمتع بصوت عمر العبدلات وهو يردد:

“يا مركب رايح عَ “العقبة”…خذني ووديني عالعقبة”.

“العقبة” الآن قطعة مني، وهي كل اتجاهاتي، وقد أغنتْني عن أن أُشمِّلَ أو أُشرِّقَ أو أُغرِّب.

قد لا نزور البحر كثيرا الآن مثلما كنا نفعل في البدايات. ولكن يكفينا أننا رسمنا مستقبلَنا، وعمَّرْنا، و “ثمَّرْنا” بالقرب منه. فلم تعد لنا راحة إلا هنا. ولا انتماء إلا لهذا المكان الذي أتينا إليه شباباً ومنحناه العمرَ كداً وعملا، ففتحَ لنا الآفاقَ طولاً وعرضا. أبنائي ولدوا في “العقبة”، فسكنوها وسكنتْهم، وسيعطونها مثلما أعطتهم. فموطنُ المرءِ الصغيرُ الذي ينتمي إليهِ هو ذلك المكان الذي يحمله في قلبه، ويعطيه من جَهدِهِ وكدِّه، ويرسم فيه أحلامَه ويحققها، وتكون له فيه ذكرياتُ عمرِهِ بحلوِها ومُرِّها، ويُكَوِّنُ فيها علاقاتِهِ وصداقاتِه، ويُنشىءُ فيها أبناءَه.

أيُّهٰذي “العقبةُ”،
أيُّ سر فيكِ هو ذاك الذي يجعلني أُفضِّلُ أن أُدفنَ في رمال منطقتكِ التاسعة على أن يضمَّ جسدي ترابُ “عجلون” حين تعودُ الـرُّوحُ إلى بارئها؟

أيُّهٰذي “العقبةُ”،
أتيتُ إليكِ غريبةً لأُقيمَ فيكِ لفترةٍ ثم أعود، ولكنَّكِ صرتِ حبيبةً تورطتُ في هواها، كالعاشق الذي يبدأُ الحُبَّ ثم يغرقُ فيه بلا حدود.

أيُّهٰذي “العقبةُ”،
جاءَتْ إليـكِ بخافقـي الأحـلامُ
فسكنتُ فيكِ، وطابَ فيكِ مَقامُ
وسكنْتِني أرضـاً وبحـراً فاتنـاً
فعليـكِ مِنْ ربِّ السَّـماءِ سـلامُ
——–

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى