آخر عطر / خلود المومني

آخر عطر

اعتادت أمي أن تفرغ ( شوالين ) القمح مونة السنه في زاوية الغرفة كي تنقي الشوائب وتعيدها إلى ( الشوالين ) نظيفة.
كانت هذه فرصه مناسبه كي نتعلم السباحه في القمح. …وأخذ أخي الصغير ذو العامين إلا شهر يقفز في تلة القمح الصغيره. ..نقفز وراءه ونبحث عنه. …نخرج من القمح ثم نقفز في داخله مرة أخرى. . .وقهقهة أخي الأصغر مع اخوتي الثلاثة الآخرين يسمعها أهل الأحياء المجاورة. …أنا الكبرى. …أي التي علمتهم السحر…….انتهى ذلك الصباح بعد أن انهكتنا السباحة. ..ولا أعلم لما علينا الاستحمام بعد ذلك اللعب على تلة نظيفة من قمح.
في الظهيرة أصيب أخي الصغير بلفحة هواء على حد تعبير أمي. ….ثم التهاب رئوي حاد في نفس المساء. …ثم وفاته في منتصف تلك الليلة .
احضروه في الصباح من المستشفى في المفرق. …وضعه أبي ( رحمه الله ) في الغرفة بجانب تلة القمح الصغيرة. ..وأغلق الباب بالمفتاح. ..ووقف في خارج الغرفة ينتظرون السيارة التي ستقلنا إلى قريتنا الأم ليدفن هناك. ..دموع أبي الساخنه. …نحيب أمي. …تلك مشاهد مضى عليها 40 عاما لم أنس منها شيئا. ….أظن أني شقية بذاكرتي … سرقت المفتاح وكنت أعتقد أني ساوقظ أخي وأثبت لهم أنهم مخطئون. . .فهو نائم. ..تعب من اللعب ونام. ..فتحت الغرفة وأغلقتها على نفسي. …أنا وأخي المتعلقة به فقط. ..لا أحد غيرنا. ….بدأت بمنادته بصوت خافت كي لا يسمعني أحد. …لم يصدقني أحد أنه فتح عينيه ثم أغلقها. …بقى مسجى على الأرض بلا حراك. …ودموعي الصامته اختلطت مع رائحة العطر الذي وضعه أبي عليه. ..غسلته دموعي وانتشر عطره أكثر. …فترة طويلة بقيت معه. …حضرت السيارة وافتقدوني. …ثم افتقدوا المفتاح. .. وبدأوا بالطرق على الباب. …ناداني أبي : خلود. ..أنت جوا يابه؟ افتحي الباب. ..افتحي. …وبعد عناء فتحت الباب. ..احتضنني أبي وقال : لا تبكي يابه. ..هذا طير من طيور الجنة. ..بكره كلنا بنروح لعنده.
وأصابني الحزن الشديد. …إلى الحد الذي مرضت فيه. …وقرر الطبيب عمليه. …فجأة سألني الطبيب : ليش عيونك هيك؟ ؟!!! قالت له أمي : قبل أسبوعين يادكتور مات أخوها وكانت متعلقه فيه ودايما تبكي.
قال الطبيب : خذوا البنت ما بدها عملية زائدة. …البنت حزينه فقط. …حاولوا تنسوها أخوها.
وها أنا على مايبدو الآن أني نسيته. …..حتى ذلك العطر الذي شممته . .. آخر عطر وضع عليه كما يبدو أني نسيته. …لأني شممت نفس ذلك العطر على أبي وهو مسجى أمامي بلا حياة. ..نفسه العطر. …. نفسها الابتسامة العريضه …..نفسه النور. …نفسه الارتياح على قسمات الوجه. …نفسه الموت. ….خدعتني يا أبي وسبقتني إلى أخي ……جلست اتأملك بنفس تلك الدموع الساخنة الصامته. …..همست لك. …أبي هذا العطر أين تخبئه؟ ! لماذا يجب أن يكون عطر الموت نفاذا هكذا. ؟!….يتغلل في الذاكرة ويتملكها دهورا. …؟! بل يتملكها إلى الأبد.
أبي عندما همست لك سمعتك تقول لي : غيري العطر واستعملي عطرا للحياة. ….قصيرة هي الحياة جدا. …ولن تحتاجي لعطر برائحة نفاذة كي تمارسيها كما يجب. ….كنت تحب الحياة. ..تمسكت بها بقوة. …ولن أخذلك. ….سأجعل آخر عطر استعمله كل يوم. ..عطر حياة. …كما كنت تريد. ….ولتكن الحياة آخر عطر. !!!!!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى