اللاهثون خلف عربة العريس !

اللاهثون خلف عربة العريس !
د. علي المستريحي

انقضت ليلة “التعليلة” على خير، وعاد الناس لا فاقدين ولا مفقودين عند آخر الليل لبيوتهم الطينية التي تنبعث منها رائحة رطوبة الصيف الممزوجة بعرق الدبكة وبحّة الصوت ودخان فرن الطابون القريب للبيت، وانتهت بعدها ليلة الحناء بسلام دون أن يزعل و “يتنّح” أبو الفوارس كعادته ويحجم عن “التشبيب” بانتظار رجاء الصغير والكبير له للعدول عن قراره المجلجل، ليتلمس بالوقت العصيب مدى حاجة الناس له بيوم عصيب كهذا، ذلك قبل أن ينصاع مجددا لطلبات “الجمهور”، ويعود للتصفير بشبّابته من فمه وعينيه وكرشه وأذنيه بهمة ونشاط أكبر، معبرا عن زهوّه العظيم ومطمئنا أن الحاجة إليه كالحاجة إلى العريس نفسه ! وانتهت بعدها قبل مغيب شمس اليوم الثالث مراسم يوم الزفاف بالطواف بالعريس بشوارع القرية الترابية المغبرّة في يوم صيفي تموزي شاق معْرَقّ .. وبقي فقط شيء واحد: تشييع العريس إلى مثواه الأخير، إلى عروسه تحت أجنحة الليل الدامس!

يجلس الجميع في عريشة دار المريوش الطينية المربعة بانتظار لحظة الصفر لوداع العريس برحلة الدخلة الأخيرة .. وهناك على طاولة خشبية مربعة عالية مغطاة بمفرش بلاستيكي مزركش يجلس “لوكس” كاز مجنون، فتارة يضيء بجلاء وتارة يشتعل برأسه اللهب كلما علت ضحكات الحاضرين ولا أحد يبالي .. أما العريس، فيجلس عند زاوية العريشة الغربية القريبة من المدخل، يلفه بعض شباب من جيله والكثير من الصبية، يطلق الأصحاب التعليقات الساخرة، الجريئة والفاضحة أحيانا، فيضحك الجميع بجنون فتقطع قهقهتهم عتمة الليل ونقيق ضفادع البرك الآسنة المتجمعة من شتاء عتيق .. يحاول العريس ألا يبدي أي ردة فعل مشبوهة أو مفضوحة، فيجاملهم بابتسامة مفتعلة كل مرة مراهنا على مرور الوقت.

تحضر سيارة كاديلاك بنية اللون طويلة القوام بلوحة خليجية لتقل العريس وعروسه لمخدعهما الأخير، فيهرع الجميع خفافا لا ثقالا، ويبقى العريس آخرهم! لكن السيارة تمتلئ وتغصّ لأذنيها بالراكبين، فتسير ببطء وتثاقل تارة وتارة تحاول الركض للإفلات ممن يتبعونها من الصبية والناس وهم يلهثون! لكن لا زال على السيارة أن تقوم بالمهمة الأخيرة، فتسير قاطعة شوارع القرية الترابية المتعرجة الضيقة، فتضيق بها، وجموع الناس والصبية يتبعونها، تارة ركضا وتارة مهرولين مسحّجين ! أما والد العريس أبو خالد، فيخلع عقاله من على رأسه ويتبنى مهمة هش اللاحقين بسيارة العريس من الصبية مرة، ويضرب بقوة عندما يلوح له ذلك مرات، فيتفرقون قبل أن يعاودوا الكرة بلا يأس مرة تلو مرة !

مقالات ذات صلة

جميع الصبية يعرفون أن كل مناسك العرس قد انفضت، ولم ولن يعد لهم لزوم بعد هذه اللحظة كتقديم الماء والشاي والقهوة للحاضرين وترتيب الكراسي ومسح الموائد الخشبية بعد أكل المدعوين والتسحيج ومشاركة الدبكة عندما يقل عدد الدابكين والمسحجين .. لكنهم كلهم، كلهم لا يعرفون لماذا يتبعون سيارة العريس عند انتهاء كل عرس ويتلقون ضربا مبرحا من والد العريس كل مرة، ثم يعاودوا الكرة بلا يأس مرة تلو مرة! هي معادلة لطالما استعصى علي فهمها ..

مر دهر من الزمان، واتسعت البلدة وتسللت المدنية لها من كل نافذة وباب، واختفت عريشة دار المريوش الطينية المربعة وحلت محلها البنايات الاسمنتية، واختفى لوكس الكاز المزاجي واتسعت شوارع البلدة في رأس الساكنين وتحت أقدامهم، ولكن شيئا واحدا لا زال يعيش وباق فينا لا زلت لا أفهمه: لماذا لا زال “الصبية” يتبعون عربة العريس، تارة راكضين وتارة مهرولين مسحّجين،‏ فتجلدهم “الحكومة” بسياطها على “قفاهم” بقوة كلما لاح لها ذلك، فيتفرقون قبل أن يعاودوا الكرة بلا يأس مرة تلو مرة ؟! لماذا لا زالوا يصرون على الركض لاهثين مسحجين ومطبّلين خلف عربة العريس؟ أخشى ما أخشاه أنهم يأملون مشاركة العريس دُخلته !!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى