الضربُ بقداحِ الجاهليّة

الضربُ بقداحِ الجاهليّة
د. جودت سرسك

لقد اصطلح العربُ على مُسمّى صنمٍ ووثنٍ للدلالة على التماثيل التي كانوا يعبدونها في الجاهلية .أمّا هُبَلُ فكان أعظم أصنامِ قريش , وكان مِنْ عقيقٍ أحمرَعلى صورة الإنسان, مكسور اليد اليمنى أدركتْه قريشٌ كذلك فصنعوا له يداً من ذهبْ. كانت العربُ تستقسم عنده بالقداح,وكان عند هُبلَ قداحٌ سبعة فيها من كل شيءٍ إن أرادوا البحث في خروجٍ أو مكوثٍ أو حلف أو حربٍ أو استبصار أمرٍ غيبي,وقد ضرب عبد المطلب صاحب الإبل التي اعتدى عليها أبرهةُ بفيَلتِه الضخمة ,ضربَ بالقداح على ابنه عبد الله. يعتبر الباحثون هبلَ إلاه الخصب عند العرب وسيد الآلهة وقد وصفه عمرو بن لحي الذي أحضر الأصنام معه من شواطيء جدّة بعد أن مسح عنها الغبار ودعا العرب لعبادتها حيث قال :إن ربكم يعني هبل,يحلّ صيفاً بالّلات لبرْدِ الطائف ويشتو بالعزّى لحرّ تهامة.
لقد ضربوا بالقداح وضربنا معهم, وعبدوا هبلَ وعبدنا هبابيل كثيرةً لا كفراً ولا إنكارا لله,ولكنّه التشبث بالأمل والبحث عن الكرامة والخروج من الفقر والخوف من عبودية الواقع.لقد تمسكنا بالوهم بلا قيود ولا أدلّ على ذلك من وقوع الكثيرين منّا في شِباك قراصنة الذهب الفرعوني الذين وقع اختيارهم عليك ويريدونك أنْ تكونَ وسيطاً لتوزيع جزءٍ منه لوجه الله تعالى على فقراء بلدك عن روح أخيهم الذي فقدوه بحادثٍ غريبٍ وغامض وقد ذكركَ في وصيّتِه, ويُتْحفونك باتصالٍ يوم الجُمعةِ على ترانيم وتراتيل عبد الباسط المقريء الراحل لتُصدّقَ كذبَهم.
لا يخلو عامٌ من وصول رسالة بريدٍ الكتروني على إيميلك الخاص لابنة ملكٍ من ملوك النيجر أو أثيوبيا أو بلدان أمريكا الجنوبية والشمالية والتي وقع والدها ضحية غدر أو حربٍ طائفيةٍ أو موتٍ مفاجيء وخلّف لها ثروة طائلة وقد بحثتْ عنك وتريد منك أن تمنحها ثقتك وتبادلها معلومات عنك وبعض الصور الشخصية ورقم حسابك حتى ترسل لك مبلغا يتجاوز الخمسة ملايين , ولا يملك المرء إلا أن يضرب بالقداح ويرسل عنوانه ويتعذّر بأنّه لن يخسر شيئا ليفاجأ بعدها بتهكيرِ جهازه وسحْب معلوماته الشخصية ورِحلةِ ابتزازِ المال.
ومن طريف الذِكْرِ, أنّ أحدَنا وهو يعلمُ علمَ اليقينِ كذِبَهم وأنّه لا صحة لِما يعتقده وأنّ الصنم الذي يطلبُ منه الرزق لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرّا, يكتُم سرّه ويخفي أمرَه عن أهله وأصدقائه خوفا من عيون الحاسدين وأنانية في ذاته.
إنّ الضرب بقداح الجاهلية يغمرنا من ناصيتنا إلى أخمصِ رجلينا في الركون للحظّ والواسطة والصدفة والعشيرة .إنّ قداح النزوة قد أغرقت شاباً في لحظة مواعدة لفتاة عبر الإنترنت قادته قداح نزواته إلى سداد فاتورة لعصابةٍ قد أرغمته على دفع مهرها كاملا أمام القاضي.إنّ نفسَ القداح هي التي تجعل طبيباً أو أستاذا يركَنُ للطبّ الشعبي والدجَل الاجتماعي الذي يتصيّد العباءات والشماغات الوافدة خاصة, ولا عجب فقد قادتهم قداحُ عمروٍ للضرب في رحاب أصنامِ العرّافين والدجالين أملا بالشفاء أو العلاج وقد يصل بعضنا إلى تايلاند أو الصين علّه يحظى بضرب قداح مدّعٍ لعلاج طيف التوحد أو معتلٍ دماغي إثْرَ حادثِ سيارة .
وفي زمن الكورونا يتجدد الضرب بقداح الجاهلية الأولى مابين استنشاق بخار القرنفل وعصير الليمون والعسل وما بين الكمامة الصينية وتخاريف أصنام السياسيين. إنّ الحقيقة التي لا ينكرها أحدٌ أنّ هذا الفيروس الخفيّ لم يعطِ فرصةً كبيرة إلّا لأصنامٍ محددة وغيّب الكثيرَ منْ مُدّعي الدين والوطنية بحيث التزموا بيوتهم وكمّمهم الصمت والبَكَم.
إنّ الجاهلية لا تعني نقيض العلم والمعرفة كما يبدو لأول مرةٍ,ولكنها الجهل الأخلاقي والسَفه والغضب والأنفة والحميّة والعصبية والمفاخرة , وصدق تعالى إذ قال: إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحميّة حميّة الجاهلية.فليس بالضرورة كلّ ضربِ قداحٍ ومجاراة لرسائل الوهم الإلكتروني التي تتجاوز الكاسبر الروسي جاهليةً وسفها.إنه الأمل العربي الذي يتفتح عند أول مراهقة على حلُمِ الهجرة والاقتران بسائحة في نواحي المدرج الروماني أو أعمدة جرش أو معمد المسيح عليه السلام.
ومنْ أصنام العربِ التي يضرب لها القداح إسافٌ ومنافٌ وسعدُ. وسعدٌ هذا كان صنماً بساحل جدّة لبني مالك,وقد أقبل عليه رجلٌ من بني كنانة بإبلٍ له للتبرّك به,فلمّا قرّبها وأدناها منه نفَرتْ الإبل وتفرّقت عنه في كلّ ناحية, فتناول الأعرابي حجراً فرمى سعداً به وقال: لا بارك اللهُ بك إلاهاً, أنفرتَ عليّ إبلي أي فرّقتها وأنشد يقول :
أتينا إلى سعدٍ ليجمع شملنا فشتّتنا سعدٌ فلا نحن من سعدِ
وهل سعدٌ إلا صخرة بتنوفة من الأرض لا يُدعى لغيٍّ ولا رشدِ.

J_sh_s@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى