دبّرها يا مِستِر دِلّْ

دبّرها يا مِستِر دِلّْ
د. جودت سرسك

أوووف يا بايْ، كنّا نغنِّي في الأعراس جفرا عتابا ودِحِيّه، واليوم نْغنّي برصاص، عالجهادية الجهادية.
والجفرا تراثٌ أصيل وكلمات شاعرية تنبض بحبِّ ابنة العمّ (رفيقة)، التي سمّاها ابنُ عمّها الشاعر أحمد الحسن ب(الجفرا) اقتباساً من هالةِ الغزالة وعذوبة قوامها، أو ابنة الشاةِ الممتلئة قرمزية اللون المملوحة.
جفرا وياهالرّبع بِتْصيح يا عْمامِي ما باخُذ بنيّكم لو تِطحَنوا عْظامي.
كانت النكبة فهجّرت راعي الجفرا وابنة عمّه التي رفضت الزواج به، وهجّرت العائلة جمعاء إلى لبنان، لتحطّ تواشيحُ الجفرا في فلسطين ولبنان وسوريا والأردن.
والعتابا اسم فتاةٍ تقرض الشعرَ الشعبي العذري، اتفقت مع ابن الحارة أن تغسلَ قميصَه على عين الماء، فلمّا جاء الصباح تبِعها الشابُّ المهيّم خلسةً، فخلعتْ (عتابا) ملابسَها ولبست قميص الشاب كناية عن تلاصق الأرواح، وبدا له منها ما بدا لامريء القيس من فاطمة حين خبأ ثيابها وهي تغسل جسدها، فلمّا يأستْ وحلّت ساعةُ الغروب، خرجت وأخذت ثيابها بعد أنْ فقَدتْ حياءَها العربيَّ الأصيل.
هجرتْ عتابا حبيبَها بعد فعلته الذميمة، ممّا أشعل في قلبِه نار العشق، فراح يُبادلها الشعر وخبايا القلب، إلى أنْ انتهى به الحالُ لادّعاء الموت وحملِه في النّعش والمرور ببيت عتابا حتى يرقَّ قلبُها، فرقّ ودقّ وشهق.
يا ميجانا ويا ميجانا: والميجانا تعني كثرة المصائب والقول ب(ياما جانا)، وتعني المرأة الماجنة مُحِبة السهَر وإغواء شبابِ القرى والريف.
يا ميجانا يا ميجانا يا ميجانا أعطيني عيونك تَنْسِلّْ سيوفَنا
والغناء بمقامات أمِّ الزُلَف، وهي صاحبة الأنف الأذلف مرتفعِ الوسطُ ومنخفِضِ الكُلِّ، وتعنى التقرّبَ أو الزُلفى، وجمال إيقاعِه كالثوب المزركش.
والدِحيّةُ وزريفُ الطولِ والدلعونا، وألوان الأهازيج المتنوعة التي تعود في أصولها إلى آلهة كنعانيين وحكايا عشقٍ موصلية أو لبنانية، كما في الروزانا التي كانت متنفّسَ حديثِ مُحبٍّ وحبيبته، فلمّا درتْ أمُّ الفتاة قامتْ على الفور بإغلاق الروزانا أو النافذة، فأنشدتْ الفتاةُ الشعر:
عالروزنا عالروزنا كل الهنا فيها ويش عملتْ الروزانا الله يجازيها
في وسط حالة الذوق المائع وحالة الفراغ والميوعة الاجتماعية، ظهرت حالة الغناء بالرصاص وكتابة الأهازيج للثوار والشعر الساخر من المحتلّ.
فجاء الشعر الشعبيُّ الفلسطيني المقاومُ للاحتلال البريطاني والاستيطان الصهيوني، وعمّ الشامَ كلّها.
وُلِد نوح إبراهيم في مدينة حيفا قبل وعد بلفور فغنّى للوطن والثوار:
دبّرها يا مستر دِلْ بَلْكن على إيدَك بِتْحلّْ
يا حضرةْ القائد دِلّْ لا تظنْ الأمة بِتذِل
لاكن إنتَ سايرْها بلكنْ على إيدك بتْحِلْ
انضم لصفوف الثورة وصار الناطق بلسانها وممثلها وشاعرها، عبّر بشعر سلسٍ ولغة سهلة بديلة للغة العتابا والدحّية والميجانا.
والجنرال دِل هو مندوب بريطانيا في فلسطين، عيّنته لعنةُ الدُوَلِ ودَنَسُ التاريخ الحديث بريطانيا لقمع الثوار الفلسطينيين، فجاء ردّ الشاعر نوح إبراهيم في قصيدة ( دبّرها يا مستر دِلْ)، فاعتُقِل ومُنعتْ قصائدُه من النشر والتداوُل.
مِن سجنْ عكّا طلعت جنازة محمد جمجوم وفؤاد حجازي
جازي عليهم يا شعبي جازي المندوب السّامي وربْعُه عُموما
كتب قصيدته الشهيرة لأبطال البراق الذين أعدموا في سجن عكّا، فسجنته سلطات الانتداب ثم خرج فالتحق بصفوف الثوار فباغتتهم قوة عسكرية مدعومة بالطائرات، فاستشهدوا جميعاً ورمتهم السلطات في بئرٍ مهجور.
ما أشبَه الأمس باليوم يا شهيدُ، ويا نبْض وخلودَ الكلمات، وما أكثرَ مِستِر دِلْ في أوطاننا وما أقلّ نوح إبراهيم.
إنّ دور الإعلام هو الدفاع عن الأمة وحقها، وإنّ دَور مستر دِلْ هو التضليل ونشر ثقافة الروزانا والميجانا والتيك توك، ونشرُ مشاهدِ الإباحية في السيارات على جوانب الطريق بوحيٍ من المندوب السامي لخلخلة المجتمع ومصادرة قصائد نوح إبراهيم وطمْسِ هوية أبطال البراق.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى