وعي التحولات والانزلاق إلى التراجعات / اسماعيل أبو البندورة

وعي التحولات والانزلاق إلى التراجعات !!

المنحى الايجابي لفهم قضايا العصر وتحولاته يتمثل في صياغة قراءات استباقية واستشرافية عميقة حول الظواهر والتغيرات التي تجري على صعيد العالم وما يتعلق منها بالتأثير على الوقائع المحلية في المناطق المختلفة من العالم وتداعياتها على الأمم والشعوب سلباً وايجاباً ، واجتراح رؤى سياسية – استراتيجية وتصورات واستبصارات مستقبلية ذات بعد تاريخي وجغراسياسي كوني تسهم في بناء الوعي التاريخي العام وتبرز قدرات الأمم في بناء المشتركات العالمية التي تساعد على بناء العالم على أسس من التكافؤ والعقلانية والإنسانية وبما يتيح للدول والشعوب الحرية والاستقلال .
إلا أن المنحى الآخر السلبي والاستلابي لأطروحة وعي التحولات وفهم قضايا العصر قد يتمثل لدى الدول العاجزة بإيجاد تخريجات لتبرير الانسحاق والاستتباع والتبعية وإيجاد الحجج الواهية لتفسير التراجع والانسياق وراء كل ما تطرحه الدول المتنفذة التي تصوغ عناوين العصر وتحدد مشكلاته وتسوّد رؤاها في كل ما يطرح على العالم من قضايا عن طريق الهيمنة الثقافية ومن ثم السياسية والاقتصادية .
ولأن الوعي السائد والمزمن لدى معظم الأنظمة العربية والنخب التابعة لها ينحصر ويتمحور حول هذا المنحى السلبي الذي يروّج لخيارات القبول بالهيمنة والتنازل عن السيادة باعتبارها تلبي دعوات فهم العصر وعولمته وتبدّل فواعله ومتطلباته وتوحي لهؤلاء بالتالي ( بلزوم وأحادية خيارات الأنظمة ) للاندماج في المشاريع الاستعمارية المطروحة بدونية مفرطة والاستسلام لرؤاها ومحدداتها وتلبية اشتراطاتها من دون سؤال أو تساؤل ، ويكون كل ذلك بحجة فهم العصر وتحولاته أو الادعاء بحداثة مبتذلة وواقعية يائسة.
يلبي أصحاب أطروحة “فهم قضايا العصر وتحولاته” – بهذا المعنى التخريجي والمنحى السلبي ومن خلال آليات التوهم والإيهام – كل ما تريده ” العولمة – الفخ – المؤمركة ” والساعية إلى تجريد الشعوب من ثرواتها وقرارها وسيادتها وثقافتها وإدماجها في إطارات جغرافية – ثقافية – سياسية هشة مستحدثة تغيب فيها الذات القومية التاريخية للشعوب وتفتقد فيها الماهية الثقافية والكيانية وتصبح دولا مستباحة بكل ما تعنيه الاستباحة من انسياق وانسحاق وتحكم في المصير والقرار .
نحن إذن وفي هذه الحالة تحديدا أمام وعي تراجعي يقوم على الدونية الوطنية والقومية وانعدام البدائل وعدم الايمان بقدرة الناس على إحداث التغيير واجتراح البدائل ، ووفقا لهذا الوعي النكوصي فإن عدم توفر القدرة العسكرية العربية على مواجهة الكيان الصهيوني في المرحلة الراهنة على سبيل المثال تتطلب تحت عنوان ” الواقعية اليائسة وفهم تحولات العصر ” أن لا تبحث الأمة عن الخيارات الأخرى المتاحة والقبول المطلق بكل ما يمليه الكيان الصهيوني من قرارات وإملاءات والتواطؤ مع كل ما يحدثه من جرائم وانتهاكات . أو يكون فهم تحولات العصر بمنطق تراجعي وانهزامي آخر عقد معاهدات إذعانية مع هذا العدو باعتبار ذلك واقعية يواجهون بها الدعوات “المتطرفة” التي تطالب بإزالة هذا الكيان وتفكيكه .
وكل ما أوردناه هنا من اشارات يندرج في إطارات الوعي العربي السلطوي الشقي والمشتت الراهن الذي ينتج أجوبته الخائبة ( من منطلق هذا الفهم الالتباسي المخاتل لأطروحة فهم العصر وقضاياه ) ويبحث لها عن تخريجات تجعلها من وجهة نظره عقلانية ومنطقية لكي تبدو متطابقة ومتسقة مع ما يجري في العالم من تحولات مع أنها في حقيقتها إقبالا على تراجع مبعثه الشعور بالعجز وعدم القدرة وإغلاق الأبواب أمام أية رؤى وخيارات ومبادرات شعبية قد تنطوي على أجوبة مغايرة وحلول سياسية – تاريخية من نمط مختلف وهو في النهاية انئسار في بعد واحد أو هو عماء وارتباك أمام ظواهر العصر المتغيرة واستسلام لمعطياتها واكراهاتها .
المطلوب وما نطمح اليه في المرحلة الراهنة هو الالتحام بالعصر والمشاركة في فهم قضاياه بمنحى ايجابي من خلال تثبيت خيارات الأمة وتطلعاتها القومية والإنهمام باجتراح قراءة قومية استقلالية لمتغيرات العصر تأخذ في اعتبارها الأبعاد التاريخية والسياسية المختلفة المكونة لوعي ناهض جديد وتستند إلى خيارات الشعوب لا ضرورات الأنظمة ، وتقدم للعالم إسهاما استراتيجيا ورؤية كونية تعبر عن حقيقة الأمة وتاريخها ( كما جرى سابقاً أثناء الحرب الباردة من خلال فكرة الحياد الايجابي بين المعسكرين وفكرة عدم الانحياز على سبيل المثال لا الحصر ) وتبادر إلى تصحيح العلاقات القومية بين الدول العربية ذاتها وبينها وبين جوارها ومع بقية الدول الأخرى بأفكار ومبادرات نوعية ، ومناهضة الرؤى السائدة والهيمنية التي تصادر وجود وعقل الأمم الأخرى وتلغي تطلعاتها الوطنية والقومية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى