مُعضِلة أرنب / ميس داغر

مُعضِلة أرنب
مفكّرة الأعمال التي كانت بانتظاري على باب الجُحر هذا الصباح، كما في كل صباح، صارت تثير استفزازي وهي تذكّرني بالهراء إياه؛ هراء “ما يجب عليّ فعله”. تناولتُها عن الأرض بلطفٍ لا تتقنه سوى يدُ أرنبٍ مهذّبٍ ذات فراء ناعم، وبدأتُ بتوترٍ أقلّبُ صفحاتها على أمل إيجاد صفحة بيضاء فارغة، لأملأها بما أتمنى من خربشات لا لزوم لها.
لكنّ بحثي في المفكرة لم يثمر عن شيء. لا توجد صفحات بيضاء، وكل ما هنالك هي صفحات مُسطّرة بدقة، مُعدّة لتدوين المهام في أوقات محددة، بالإضافة إلى صفحات قليلة أخرى لإعلانات تافهة. وكأنّ المفكرة نفسها تقول لي إمّا تضع قائمة بما اعتدتَ تنفيذه من الواجبات، وهذا وحده ما له معنى، وإمّا التفاهة.
إن أبديتَ ارتباكاً أمام مفكرة الأعمال –وكنتَ أرنباً مُطيعاً مثلي- فإنه لا يكون ارتباكاً وليد الصدفة، بل هو نتيجة أعوامٍ قضيتَها في تنفيذ ما في اللوائح بإخلاص. بطل! ويا لك من بطل، حائزٌ على الميدالية الذهبية في ترتيب شؤون جُحرك من خلال مهام تكتبها كلّ صباحٍ بيدك، مع أنك على يقين بأنها صُمّمت لك سلفا، حتى إنّ بعضها صُمّم لك من قبل أن يولد جدّك؛ الأرنب الكبير. وعندما تتنبّه أخيراً إلى سرداب هذا الذي “يجب فعله”، والذي دخلتَهُ منذ ولدتكَ أمك ولم تخرج منه، لا يعود بوسعك إلاّ تمنّي العثور على فسحة من صفحة واحدة غير مُلزِمة في جدولك، ولو أنتجها خطأٌ طباعيّ.
حملقتُ في المفكرة، أمسّدُ أذنيّ الطويلتين مرهفتي السمع، وبدأتُ التفكير باحتمال ألاّ تكون المشكلة في وجود هذا الدفتر الصغير بل في طبيعتي الأرنبية، المنصاعة غريزياً، من بين الكائنات كافة، لتنفيذ ما في اللوائح. أطلّيتُ بوَجَل من زاوية جحري وحسدتُ القنافذ التي ظننتها لا تتورع عن ركل المفكّرات عن أبواب بيوتها كل صباح.
ولكن، لأكون موضوعياً في حَسَدي (وكوني أرنبٌ لا يعني عدم قدرتي على الحَسَد بموضوعية) فكّرت: هل ثمة بالفعل كائنات في الغابة تركل المفكرات عن أبواب بيوتها كل صباح؟ ثمّ أوصلتني موضوعيتي، بعد إعمال حبّة الدماغ الحمّصية في رأسي، إلى أنّ كائنات الغابة كلها تسيّر حياتها وفق ما في المفكّرات، حتى تلك القنافذ الفظة قليلة الاكتراث.
جُبتُ الجُحر جيئةً وذهاباً، أفكّر بقلقٍ في هذه المعضلة التي انفتقت في ذهني على حين غرة، وتضاعف قلقي وأنا أفكّر إن كان يجدر بالأرانب الوقورة شَغل رؤوسها بمثل هذه الأمور. وفي الوقت الذي كانت التساؤلات حول مفكّرات الأعمال تنخر وعيي بإلحاحها، تنبّهتُ إلى الدفء الذي يملأ عليّ جُحري، ورائحة الحساء اللذيذة المنبعثة من جهة موقدي الصغير. ثمّ وجدتُ وعيي يتسامى إلى حالة ما وراء طبيعية، يحضرني خلالها إحساسٌ روحانيٌ مبهمٌ بأنّ تلك ما كانت إلا تساؤلاتٍ بَطِرَة، أثارتها في ذهني رفاهيةُ عيشي في هذا الجُحر الباذخ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى