موقف عمومي

#موقف_عمومي

د. #هاشم_غرايبه

بعد عودة أحد الأوروبيين من رحلة سياحية لبلادنا العربية، قال لأصدقائه: أغرب ما لاحظته عندهم أنهم يحافظون على بيوتهم نظيفة جدا، وأثاثها في منتهى الترتيب والأناقة، ويحرصون على بقائها كذلك، لكن أحدهم في الشوارع والمرافق العامة شخص آخر، فهو يلقي بالمهملات كيفما اتفق، ويخرب مقاعد الحدائق وأشجارها بحفر إسم محبوبته عليها، كما يفسد المواقع الأثرية فيكتب اسمه على جدرانها للذكرى، وإن استعمل دورات المياه العامة يلقي بالمناديل الورقية فيها، فيما لا يفعل ذلك في بيته.
دهش الحضور لهذه المفارقة، وسألوه لها تفسيرا، فقال: أعتقد أن السبب هو أن المواطن عندهم يحرص على بيته لأنه ملكه، فيما لا يشعر أن المرافق العامة تخصه…بل يعتقد أنها للدولة التي يراها ملكا خاصا بالحاكم ورهطه!.
في الستينيات، عندما عاد أخي الأكبر من الإتحاد السوفياتي بعد قضائه سبع سنوات في دراسته هناك ، كان أصدقاؤه يندهشون حينما يعيد عود الثقاب بعد إطفائه الى علبته، كان بعضهم يعلق ساخرا: ماذا سيزيد عود ثقابك في أكوام الزبالة الملقاة على جنبات الشوارع!؟، فيرد: اعتدت على ذلك لأن الجميع يفعلونه هناك، وكنت سأجد عيونهم تتركز علي مستهجنة لو رميته على الأرض.
طبعا استدعى الأمر منه بضعة شهور حتى شفي من هذه الحالة، وعاد يلقي العود وعقب السيجارة على الأرض …كما يفعل الجميع.
لا أعتقد أن أيا من هؤلاء (الجميع) لا يراعي أصول النظافة في بيته، ولا يمكن أن يرمي شيئا على الأرض.. لماذا؟…لأن ربة البيت ستوبخه وستجبره على رفع ما رماه ووضعه في سلة المهملات.
إذاً فالموضوع متعلق بالضبط والحزم في منع هذه الظاهرة، وليست في أن طبيعة شعبنا أنه لا يحب النظافة ولا يهتم بالمظهر العام.
الدراسات الإجتماعية أثبتت أن البشر في المسلكيات متشابهون، لا يوجد شعب يحب القذارة، أو يرى أن التمسك بالنظافة سخافة، كما أنه لا توجد هنالك أمة فوضوية بطبيعتها وأخرى منظمة، بل توجد واحدة منضبطة بفعل ضابط، وأخرى منفلته لغياب ذلك الضابط.
هذه الظاهرة التي يكرهها الجميع ويتبرمون منها رغم أن أغلبهم يمارسها، والقلة القليلة التي لا تفعل ذلك، تحس باليأس من ضآلة نفع التزامها، ..فماذا سينفع رش معطر للجو بجانب محطة لتنقية المياه العادمة.
لو دققنا في بحث أسباب هذه الظاهرة، والتي هي قطعا ليست عائدة الى تقدم الشعوب الأوروبية وتأخرنا، ولا هي لأسباب أخلاقية أو أن طبيعتهم هي التي تلزمهم بحب النظافة والنظام.
سنجد أنها كما فهمها ذلك السائح تماما، عدم وجود انتماء الى الأملاك العامة، ويرجع ذلك الى سببين، هما في الحقيقة مرتبطين عضويا بأنظمة الحكم العربية.
الأول: إن الثقافة المترسخة بعدم الإنتماء الى مؤسسات الوطن ومرافقه الحيوية تعود الى ما اكتسبه الناس من تجارب مريرة بعد الممارسات التسلطية للسلطة طوال عقود، من أن الوطن هو ملك الحاكم وكل ما فيه له، فالشارع باسمه والحديقة باسم زوجته والملعب باسم ابنه وحتى المسجد الذي يبنى على نفقة الدولة يسمى باسم أبيه أو جده لتخليد ذكراه، ويمن النظام عليه بكل ذلك إذ يعتبره منجزا له، ولولا عطايا الزعيم ومكارمه ما تحققت.
والثاني: هو تقصير الدولة المزري في صيانة الشوارع والمرافق، وفي حجم خدمات النظافة ، حيث أن الضرائب الكثيرة التي يدفعها المواطن لا تنعكس عليه بخدمات بسبب فساد الأنظمة، فالداخل الى جيبها مفقود، لذا فالخارج منها معدوم.
ربما يجب نشر ثقافة النظافة والترتيب، وضبط ذلك بقوانين ورقابة، لكن قبل لوم المواطنين لتسببهم في تراكم الأوساخ ورمي أعقاب السجائر وأكواب القهوة في الشوارع، يجب أن نبدأ بإحياء شعور المواطن بالإنتماء الى الوطن وإحساسه بملكيته له، والتوقف عن جلده بمقولة أنه عالة على الزعيم الأوحد، الذي ضخمه النفاق والتزلف حتى بات أكبر من الوطن، بل إن الوطن ذاته في جيبه، وبيده ان يحيي المواطن إن سبّح بحمده، ويميته إن عارضه.
لذلك لا يجوز لأحد مطالبة المواطن بالولاء والانتماء، إلا عندما يرى زعيمه مثل أي رئيس أوروبي، لا يمتلك الوطن بل يخدمه، لذلك يكون همُّه الأول حماية الوطن ونفع المواطنين، وليس محصنا من المساءلة هو وعائلته، وعندها لن يبقى للفساد من وسيلة إليه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى