“منصور” في قبضة الأمن العام / منصور ضيف الله

ثمة تجارب مريرة لم تكن بالوارد ، إحداها حصل معي يوم الاثنين الفائت ، كنت في طريقي إلى مستشفى الجامعة ، ولم يدر بخاطري أنني أحد المطلوبين . استوقفتنا إحدى دوريات الأمن العام ، وبعد التدقيق في الهويات أصبحت في قبضة الأمن العام . الموقف غريب ، فجميع من في حافلة النقل العام ينظر بدهشة ، والكنترول ، وكان اكتشافا متأخرا ،أحد طلبتي ، حاول التدخل ولكن شجاعته خانته . صعدت في المقعد الخلفي في سيارة الأمن العام .غاب الانفعال . تطايرت الأفكار ، وتهادت السيارة في حركة بطيئة .انثالت التهاني على مسؤول الدورية ، وعلى ارتفاع حسه الأمني .
فهناك في الزواية القصية يقبع مطلوب ، مشوشا ، مضطربا ، ومجرد معلم حكومي ، لعله استدان ثمن الأجرة ، وكشفية الطبيب ، وثمن الدواء . في غرفة النظارة ثمة أشخاص عبروا قبلي ، نقشوا أسمائهم ، ومضوا في لجة الحياة . السجين يفقد صلته بالحياة منذ اللحظة الأولى ، وعادة ما يبدأ الاستدانة من ذكرياته وأحلامه ، في مواجهة قاسية مع الذات ، عما وجب ، وعما لم يجب ، عن الوهم الذي نظنه واقعا أو حقيقة ، وعن الحقيقة المغيبة في خضم البحث عن اللذة والمتعة .
وعادة ما تنقطع صلته العاطفية بالواقع الخارجي ، فتبدو كم هي مؤلمة الصورة ، إنها لحظة العودة إلى المنابع الداخلية للذات ، إلى النوازع الفطرية ، والأصل ، وإنسانيته التي تنتهكها الحضارة ، وثقافة الاستهلاك ، ورغبة التفوق .
شمس عمان تذهب إلى مستقرها الأبدي . سيارة البوكس تقل المعلم وحيدا إلى مديرية جنوب عمان ، وهناك عملية التبصيم ، وخلع الحزام وتسليم الهاتف . في مكان الحجز ثمة خلق كثير ، والغرفة ضيقة لا تكاد تتسع لأجسادهم ناهيك عن أوجاعهم .
كانت فرصة طيبة للتعرف على أحوال المجتمع الأردني ، على الأقل في أحد مقاطعه . شباب في مختلف الأعمار ، يخالطهم بعض الشيب ، تائهون وضائعون ، يفتقرون إلى درجة وعي كاف . هم مجرد ضحايا ، لم يحسنوا فعلهم وردات فعلهم . فقراء يحتاجون ثمن قوت يومهم . وينتظرون الخلاص مما هم عليه وفيه .
كانت جل القضايا تتعلق بالمال ، مع البنوك أو مع مواضيع النفقة الشرعية ، وقليل منها يتعلق بقضايا جنائية . وهنا لا بد من إعادة النظر في فلسفة مراكز الإصلاح ، وعلى أقل تقدير في التثقيف الديني وتخصيص حيز زمني لهذا .
بعيد منتصف الليل وفي الغرفة الضيقة حيث تنتشر الروائح القذرة ، يغط الجميع في نوم عميق ، باستسلام كامل ، وحالة يرثى لها ، في انتظار قوادم الساعات .
في ذات الغرفة قصص كثيرة ، بعضها موجع ، لعلها لم تطرق مسامع المسؤولين ، واحدة منها عمن قضوا فترات زمنية طويلة خلف القضبان بسبب شيكات مالية . منسيون ، معزولون ، وفقدوا الأمل بالخلاص ، وبعضهم امتد به العمر ، ومن واجبي أن أشير إلى ضرورة استصدار عفو عام ، فمجتمعنا سمح وكريم .
في نظارة محكمة جنوب عمان تقترب لحظة الخلاص ، ورفيقي ابو مهند ، المقيم القديم في سجن الموقر يضعها أمانة في عنقي . أعرف أنك لن تقرأ شيئا مما كتبت ، ولكني اطلقها في هذه المقالة ، لعل أذنا تسمع أو قلبا يرأف .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى