لِكلِّ مكانٍ حِكايتُه

لِكلِّ مكانٍ حِكايتُه
د. سمير أيوب

عشوائياتٌ في الحب – ألأولى
عَبْرَ طُرقاتٍ تُرابيَّةٍ ، مُكلَّلةٍ بضبابٍ عاقِرْ ، وصَلْتُ تلَّةً كان قد سبَقني إليها ، بعضُ رذاذٍ مِنْ بواكيرِ مطرٍ تشرين . تلةٌ مُجلَّلَةً بأشجارٍ ، يُراقِصُها نسيمٌ يَجري مِن جبلِ الشيخ ، أشجارٌ مُثقلةٌ بأحمالِها منَ جوافةِ قَلْقيلية وموز أبو نُقطةٍ الرّيحاوي .
تجاورُ التلَّةَ منَ الجنوبِ مدينةُ أمُّ قيس ، ومن الشمالِ قريةُ المُخيبة على نهر الاردن ، الواجهةُ الغربيةُ للتلَّةِ ، بانوراميةٌ تُطلُّ على قِبابِ الأقصى ونواقيسِ بيتِ المَقْدس . وتتَّكِئُ حافَّتُها الشرقيةُ ، على مُلتقى الحدود السورية – الأردنية – الفلسطينية . هناكَ جنوبِ الجولان المُحتَلِّ ، تسترخي قريةُ الحِمَّة ، وينابيعُها الكبريتية الساخنة .
بعد أنْ عانَقَتْ عينايَ المياهَ العذبةَ في عينِ بولس ، عَبِثَت أصابعيَ المُشاغبةُ بمائها وطَرْطَشْتُ وجهيَ به . إنْتقيتُ مِنْ الينابيعِ الساخنةِ عينَ البلسم ، وألقيتُ بِرِحاليَ عندها ، لِما لَها مِنْ مزايا عِلاجية .
مُرافِقَتي في تلك الرحلةِ صديقةٌ رَبْداويةٌ . إمرأةٌ شابةٌ مُرَبِّيَةٌ مُتقاعدةٌ ، مُهَندَمةٌ بأناقةٍ بيِّنَةِ النُّبْلِ، غزَتْ ضِفافَ عينيها وحَوافَّ شفتيها ، تجاعيدٌ بعضُها حَيَّيٌّ ، وبعضُها بالغُ الجرأة ، والصراعُ بينَ الأبيضِ والأسود في شعرها يميل لصالح الفضة . سألتني وهو تتأملُ تفاصيلَ المكانِ وكأنَّه لُغزا : لِمَ هذا المكان يا شيخنا ، أهِيَ الصدفة ، أم في الأمر ما لا أدريه ولا أعلمه ؟!

قدمت لها كرسيا لتجلس فيه قبل ان أجيبها . وقلتُ وأنا أجذبُ كرسيا: سيدتي لا شيء يأتي صدفة . خالفتُ المسافاتَ وتَعبَ جسدي وأتيتُ إلى هنا تَعمُّدا . أشعرُ بحنينٍ جارفٍ لهذا المكان . هنا منذ الف عامٍ وعام ، جئت من أقصى العمر سَعياً ، إلتقيتُ بصورةٍ غرائبية ، امرأةً لَمْ أرَها من قبلُ . جُلُّ حديثِها في عَيْنيها . أنْصتُّ لما كانت تقولُ . حكَّمتُ القابعَ في يسارِ الصدرِ . فهمتُ ما لَمْ تَكُنْ تقول . فتبدَّت ليَ رؤى أفسحتُ لها مجالاً . عانَدتُ بها ظنّيَ المُتوضِّأ بالحيرةِ والتخمين . فقد كان كافِياً لعينيها أنْ تُشعلَ نارَ إبراهيم في روحي ، وأن توقِدَ نوراً في قلبي . إحتَوتْني حتى ضمَّني وميضُهُما إلى قلبِها ، وضَمَّها إليَّ قلبي . أحبَبْتُها فَثَمِلتُ ، إمتلأتُ بِها حتى فِضْتُ . وسَكَنْتُها حتى باتَتْ عِنوانيَ الرسمي .
تشاجرنا هنا كما يفعلُ الطَّازَج‘ مِنَ المُراهقين . دونَ أنْ نحرقَ خلفَنا أيّاً مِنْ مراكِبِنا ، تَباعَدْنا مُنذُ ألأزَل . لَمْ أزُرْها منذ قرن . أشجارُ المكانِ وأزهارُهُ ما زالت على حالِها ، يومَ غادَرْنا المكانَ مُفتَرِقين مُتَغاضِبَين . حتى الذينَ ماتوا من أصحابِنا ، ما زالوا أحياءً شباباً في خاطري . يَذبلُ العمرُ ويتلاشى يا سيدتي ، وهي على قيدِ الحياة . تُجاملُ الشمسَ في أعماقي وتُعانِقُها . تَرْحَلُ صُبحاً ، ويأتيَ شيءٌ مِنْ عِطْرِها كلَّ مساء .
سألَتْ بلهفةٍ مُتعجِّبةٍ : ألِلأماكنِ ذاكرةٌ مُلهِمةٌ يا شيخنا ؟ وإنْ وُجِدَتْ ألا تشيخُ وتَخرَفُ ؟
قلتُ وأنا أحتضنُ بِينَ كفيَّ فنجالَ قهوتي : إن زُرِعَتِ الأماكنُ شَوقاً أو شَوْكاً ، تُلهِمُنا كما البشر أو أكثر . إنْ قادَنا إليها الحدسُ ، سنعرف مَلمَسَها الحقيقيَّ . يظن البعضُ أنَّ الأماكنَ موادّا صمّاء تحترفُ الصمتَ ، لا تُحِسُّ عديمةَ الشعور . ولكن ، تغشى بعض الأمكنة حياة ، أكثر دفئا مِنْ أهلها . تُلاحقُنا موسيقى أنوثتها كشبحٍ حيٍّ .
نَعَم إنِ ازْدَحمَت الأماكن بِنا تُلهِمُنا وأكثر . تفيضُ وإن بدت لأعينِ البعض خاليةً خاوية .
طُفتُ أماكنَ كثيرة . أقمتُ فيها وتذوقتها . أحنُّ إلى بعضها . لي فيها قصورٌ من ناسٍ . أشتهي المشيَ في أزِقَّتِها ، لألْمَحَ بعضاً مِنَ الذين كنتُ ألتقيهم بالأمسِ البعيد القريب . وأخشى الذهاب إلى بعضها ، فقبورها ما زالت طازجة . موتاي هناك ، لن ألتقيَ بأيٍّ منهم . وإن مشيتُ في شوارعها العتيقة ، لن يعرفني أحدٌ من ناسها .
كما كُنا ، حين كُنا أطفالا أو كما سنصير ، أحن بقلبي للبعض ، وبعقلي لبعض آخر ، وبمزاجي او بالمنطق الى أُخَرٍ . هنا يا سيدتي ذكرياتٌ تُشبهني . كلَّما خذَلَني صبري أجيءُ ، لأنّي أثقُ بذاكرةِ المكان . أحن كثيرا إلى إمرأةٍ منذُ غابَت عن العينِ ، ما فتأ القلبُ يِتلَفَّتُ إليها . بالحنين هنا ، أعيد بناء أزمنتي الداخلية ، أخَصْخِصُها ، وأحْجُرها على لحظاتٍ مُعيَّنة ، أو مرحلة من الصبابة . هنا أشعرُ بكثافةِ حضورِها .
قالَتْ مُتخابِثةً : يقالُ أنَّ كلَّ امرأة تُنْسى بامرأة أخرى ..
أرادَتْ أنْ تُكملَ إلاّ أني قاطعتها مُستَنكرا : ولكنها امرأةٌ لمْ تُخلَقْ للنسيان . كُلَّما تعثَّرَ قلبيَ في كَمائنِ الحَزَنِ أو في أيٍّ مِنْ فواصلِ كَيْده أهرب مني إليها . أبحث عنها فأجدها . لا تكتفي بقول الحب بل تمارسه . في عز غضبها تُداويني وفي ضعفها تُرمِّمُني وتُعززُني وتأويني . وتفتح لي أبوابا على أفراح الحياة .
سألَت بشيء من الضيق وهي تقف : أما تزال كابوسك ؟
قلتُ مبتسما : الحب يا سيدتي كالبحرلا يشيخ ، الابتعاد عنه يبقينا على حدِّ سكينٍ . نعم ، إنها كابوسيَ المُفضَّلِ . كابوسٌ ليسَ كمِثلهِ كابوس . فشلتُ في الابتعاد والمضي دونه . أغوانيَ عقليَ بسببٍ لأبتعد ، فأهدانيَ قلبي ألفَ سببٍ وسببٍ لأتابع . لا شيء على هذه الأرض أقوى من إرادة عاشق يا سيدتي . بين فجواتِ حَزَني ، تختبئُ أسرابُ حنينٍ ، إن غشيني مرة بلا موعدٍ أو بلا تنسيقٍ ، أزوره ألفَ مَرَةٍ . روحيَ مُؤثثة بوميضِ عَينيها ، بُحَّةِ همسها ، جنونِ أصابعها وارتجافاتِ شفَتِها ، وكَمشاتٍ مِنْ أحلامنا .
قالتْ باستنكارٍ حَييٍّ : ألا تَمَلّ ؟
قلتُ وأنا أواجهها واقفا : كيف أمَلُّ وللقلبِ قدرةٌ عجيبةٌ على الحب ؟ وكيف أضجرُ وهناكَ مَنْ نُحبُّهم ويُحبونَنا ؟
سألتْني وهي تقولُ هيَّا بنا :لِمَ نُحِبُّ ونهوى ونعشق ؟
قلت مقهقها وانا امسك بيدها : تلك حكاية العشوائية التالية إن شاء الله

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى