لن يستقيمَ العدل أيُّها الوالي ! / م . عبدالكريم أبو زنيمه

لن يستقيمَ العدل أيُّها الوالي !
صرخة أطلقها ابنُ جبير بوجهِ الحجاج عندما عجز عن إقامة العدل خلال فترة توليه القضاء زَمَنَ الحجاج والي العِراق إبان خِلافة عبدالملك بن مروان، فالعدل بمفهومهِ العام هو الرَّكيزة الرئيسية لبناء المجتمعات والدول وباستقامتهِ تَستقيمُ الأُمم ويسود الأمن والرخاء، وكم لنا في التّاريخِ والأُمم التي خَلَت آياتٍ وعِبر عن دور العدلِ في انتشال الأُمم من بينِ رُكام الحروب وغياهب الظلم، فبرغم الدمار الذي طالَ بعض الدول، إلا أنَّ القضاء والعدل فيها بقي منزهاً وبفضلهِ كضامنٍ للدستور والقوانين نهضت تلك الدول وأصبحت في مصافِ الدول الرائدة .
وبالعودةِ إلى ابن جُبير والحجاج، فقد أمر الأخير سعيد بن جبير الرجل التقي الورع بتولي القضاء، فاعتذرَ ابن جُبير – لما يعرفه عن ظلم وتجبر وطغيان الحجاج وفساد حاشيته وجنده – عن تولي القضاء مُتذرعاً بأنَّهُ من الموالي وبأنَّ العرب لن يقبلوا به قاضياً عليهم، إلا أنَّ الحجاج عاودَ الأمر بعد مُدةٍ من الزمن، فلم يجد ابنُ جبير بداً من القبول أمام بطش الحجاج، فقبل تولي القضاء على مضض. توالتِ الأيام ومرَّت والناس لا يشكون لابن جبير إلا ظلم وطغيان الحجاج وحاشيته، ولَم يكُن في يدِ ابن جُبير حيلة ولَم تَكُن لهُ طاقةً بالحجاجِ وجُنده ! إلى أن طفحَ بهِ الكيل ودخلَ على الحجاج سائلاً إياهُ إعفاؤه من القضاء ! وأمام إصرار الحجاج على معرفة السبب أجابهُ ابنُ جبير: “المُشكلةُ أيُّها الوالي أنَّكَ أصلُ الفساد، ومُذلُ العِباد وأنَّكَ أصلُ البلاء ومانعُ الرَّخاء، فمتى استقمتَ استقامت الرَّعية وسادَ الرَّخاء..وأنّي أيُّها الوالي أرى أنَّ العدلَ لن يستقيمَ ما دُمتَ أنتَ فوقه ! ”
لقد أصابَ ابنُ جبير كبدَ الحقيقة ! فولاة أمرنا ممن تعاقبوا على إدارة البلاد “الا من رحم ربي” عبر عقود من الزمن هم من أسسوا للفساد الذي أذل العباد، امتطوا القوانين والتشريعات وسيروها بما يخدم مصالحهم واستثماراتهم، عقودٌ وهُم يمارسونَ لَي وتطويع القوانين بما يخدمهُم في نهب الثروات وتجويعنا، فلم يقتصر الأمر عليهم بل زِد عليهم غالبية من توسمنا فيهم الخير وأوصلناهم بيت الشعب “قبة البرلمان” ها هم قد انقلبوا علينا وانظموا لمؤسسة النهب والسلب وتخندقوا في الصفِ الأول في مواجهة طموحاتنا وآمالنا، ولهذا نئن اليوم تحت وطأة الجوع والبطالة والتشرد والضياع لانهم كانوا وما زالوا فوق القوانين وبعيداً عن المحاسبة.
عُظماءِ التَّاريخ الذينَ أقاموا العدل شيدوا بعدلهم البنيان وصنعوا المعجزات؛ فما قامت دولة المساواة والرفاه والرخاء في زمنِ الخليفة الخامس عمر بن عبدالعزيز بالظُلمِ والبطش ونهب الأموال بل بإقامةِ العدلِ وتولية الأبرار، فوصلَ الحالُ بهمِ إلى البحثِ عَن مُستحقين للصدقة فلم يجدوا إلا الطير ! وعندما مات رحمه الله لم يجدوا في أرصدتهِ ما يكفي ليُكفَنَ بهِ ! وما كانَ لصلاح الدين رحمه الله أن يُحررَ أرضَ الإسلام وبيتُ المَقدس لو شُغِلَ عن الجهاد بكنزِ الأموال، حتى أنَّهُ لم يَجِد ما يكفيهِ للحجِ إلى بيتِ الله ! ماتَ هؤلاء العظماء ورحلوا بأبدانهم لكنَّهُم عاشوا ويعيشوا وسيعيشون خالدين مخلدين بأذهاننا وقلوبنا وآمالنا
وكمال قالَ ابنُ خلدون في مُقدمتهِ : ” الظلمُ مؤذنٌ بخرابِ العُمران “، فلتعتبروا يا أولي الألباب ممن سبقكُم ولتعتبروا ممن يُعايشكُم في زمننا هذا، فهل لنا عبرة في مهاتير محمد باني ماليزيا الذي انتشلها من الحضيض والرذيلة إلى مصافِ الدول الرائدة بالعدلِ والمُساواة وتكافؤ الفرص وسيادة القانون، وهو الذي يستخدم دراجته الهوائية اليومَ للذهابِ إلى العمل بعمرهِ التّسعيني ! فهل يكتفي أحدكم بسيارةٍ حكومية واحدة في عمله؟ وهل يقبل أحد نوابنا بإعفاءٍ جمركي لسيارةٍ واحدة ! وعطاء مقاولات واحد ! لقد أساء البعض منكم أيُّها السادة بأن جعلَ من قبة البرلمان مغارةً لعلي بابا وشركائه ، فهل يستقيم العدل ما دام الكثيرون فوقه !
aboznemah@yahoo.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى