لماذا؟

لماذا؟

مصعب البدور

لربما لم يكن لهذه الكلمة أي وقع على مسامعي، لربما لم أستطع في السابق أن أتفهم معنى الكلمة من الأساس، ولربما كان تقبل سماعها ثقيلا علي، حتى سمعت معلم اللغة العربية في عام 2000 يقرأ كلمات الراحل الكبير شكري فيصل في مقاله “السؤال اللاهث اللاعب( #لماذا) ” وكانت كل مرة تتكرر #الكلمة فيها على مسامعي كنت أحس شعورا جديدا، لا أنكر أنني كنت طفلا عندها، لكني شعرت لأول مرة أن #الاستفهام له مدلول واقعي أكثر من كونه لغوي له في الحياة عمق وفي الواقع سموّ، وله في الضمائر حقائق، وفي النفوس وشائج، وله تصريحات كثيرة وإشارات بليغة، وإيحاءات لا يعيها إلا متبصر.

نعم يا سادتي ولأول مرة كنت أستشعر معنى السؤال، ولأول مردة أدرك ذلك المدى للإجابة الصادمة، فالواقع أحيانا يجيب، جواب الحال يغني عن جواب المقال أحيانا أخرى، وليست الصدمة وحدها أثر الإجابة إنما العَبْرة والاختناق؛ فالإجابة العاجزة تصدم؛ لأنها تشي بحقيقة ما يفكر به الناس، ومدى مقدرته على توصيف أحوالهم، وتفحّ كاشفة أسرار تفكيرهم وتمكنهم من تحديد مكانهم في خريطة الكون، ومدى قدرتهم على تفسير حالهم وأفعالهم، وتبرير مشاكلهم وتوضيح غموضهم.

أما الإجابة الخانقة، التي كانت تكشف المعرفة النظرية للأشياء وإهمال التطبيق العملي لها، فالأخلاق محفوظة ومعروفة، ويدعيها الجميع، ويؤلف بها المؤلفون كتبًا، فصارت الأخلاق عناوين الكتب والمجلات، وعناوين فرعية للمقالات، ولذلك كانت الإجابات خانقة لأنها كشفت عن مدى النفاق الذي يعيشه الناس، عن مدى الانفصام بين ما ندعي وما نتصرف، وكانت مبكية لأنها لم تغادر مجالا إلا وعرّته وعرّت ضعفنا فيه، وقلة حيلتنا وفقر مجتمعنا إلى التطبيق مقابل التنظير.

ثم بعد تلك الحادثة بقي السؤال يرافقني، فأسأل نفسي لماذا؟

وعندما تعايشت مع الحياة، كبرت لماذا معي، وباتت تخلق لي المشاكل، ففي إحدى المرّات سألت أستاذي عن سبب دراستنا لتاريخ الأدب على شكل مرويات وأرقام، كانت الإجابة أن “اخرج من قاعة الدرس، فكيف لك أن تسأل سؤالا بدهيًّا؟” وخرجت حينها من قاعة الدرس أردد: “لماذا؟”

لماذا طردني أمام الدفعة جميعها، وعندما واجهت أستاذا آخر ………. سألته سؤالين دارا في خلدي كان أحدهما السؤال الذي طردت بسببه  والآخر لماذا طردني ؟ فأجابني عن لماذا الأولى إجابة ردت لي الثقة بالآداب والتاريخ، وعقّدني بالإجابة عن لماذا الثانية (حادثة الطرد)، فعشت لحظة من الذهول عندما قال لي: لأنه لا يعرف إجابة لسؤالك البدهي.

وكبرنا وكبرت لماذا؟ وزادت حولنا مظاهرها، فكل الأشياء التي لا تبرر ولا يفسرها منطق، وهي ممارسات مجتمعنا السلوكيّة، وحياتهم اليوميّة، فصرنا نسأل عن الحِرْفي والبائع، والمِهْني والأكاديمي والسياسي والاقتصادي بها (لماذا).

لكن الحالة تطورت كثيرا مع مرور الوقت، فكل ما يدور حولنا نسأل عنه، ربما لا نشكّ به لكننا نبحث عن مسوغاته، إلى أن سألنا بعض الكتاب والمثقفين، لماذا تكتبون ولماذا تشاركون الناس تصاميمكم ومشاهدكم؟ فأجاب بعضهم أنهم يسعون إلى إذكاء المحتوى العربي بشيء له مستوى من الرقي، ومنهم من أراد أن يوجه مسير الناس ويؤثر فيهم، ومنهم من قال: إنه ينفسّ ويسري عن نفسه وعن الناس؛ ومنهم من أراد أن يصحح مسار المجتمع، فثار السؤال “لماذا” مجددا فلماذا نكتب ولا قرّاء، لماذا نحلل الأحداث والجميع مقتنع بصواب خطئه ولا يريد أن يقلع عنه، لماذا تجد مجالات الفكر لها جمهورا محدودا، وتجد الكوميديا البذيئة والعري متابعة الجمهور الكبير؟

لماذا كتب أ.د شكري فيصل -رحمه الله- المقال، ولماذا خلق هذا الجو من الاستفهام الدائم لدي، ولماذا كان صوت الأستاذ في تلك الحصة -دون غيرها- مؤثرا حد الاستمرار في الحالة إلى يومي هذا؟

مصعب البدور – ناي الحياة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى