كن ذكيا ، إختر معاركك / سهى عبد الهادي

كن ذكيا ، إختر معاركك

قال لي يوما صديق أحترم حكمته ورأيه في أمور الحياة إثر موقف عمل جمع بيننا :
تذكري انك تحاربين في معركة خاسرة …

يومها عارضته بشدة وأجبته بأن ما يردده خطير ، ولعل معارضتي كانت تستند لطبيعتي التي ترفض الإستسلام ولا تتقبل عدم وجود الأمل بالتغيير الذي أعتقد دوما بإمكانية حدوثه دون الحاجة لثورة عارمة وصارخه ، بل قد تحدثه خطوات بسيطة هادئة ومستمرة تشابه ما يقوم به جريان الماء الناعم على الصخور العنيدة لينحتها ويغير شكلها دون ضجيج يذكر …

ولعلي حينها اعتقدت بأن الخطورة تكمن في عواقب هذه النصيحة ، فإن سمعها شخص مهمل ليس لديه اي نوع من المسؤولية زادته إهمالا وأعطته مبررا لما يقوم به وجعلته يرقد هانئا قرير العين دون ضمير يخزه ويؤنبه أو شعرة تهتز في رأسه جراء ما يقوم به ، وإن سمعها شخص مثابر ومخلص ومتقن لعمله قد يكون وقعها أشد وطأة وخطوره عليه من ذاك المهمل ، لأن فيها ما ينال من قوة عقيدته وإيمانه ومبادئه ، فهو يعمل بكامل جهده وطاقته ويحيل مع هذا الجهد جسده وروحه جسرا ممتدا يعبره بكل رضا ليحقق غايات يراها ساميه تستحق كل ذرة تعب يبذلها للوصول ، ولا يسعه أن يقبل او يصدق بأنه يخوض معركة معروف ومسلم بنتيجتها الخاسرة منذ البداية …

ظلت هذه النصيحة ماثلة امامي بشدة ، ولكني كنت أحاول بإصرار أكبر تجنبها لكي يستمر عطائي لما اقوم به نقيا خاليا من أي شائبة ، ولكي لا يعتريني ذاك البرود الذي يضعف الهمم ، ومع ذلك ظلت هذه النصيحه تعاود الظهور مع كل موقف أمر به إلى أن بدأت أفكر بها وأراها بشكل آخر …

في حياة كل منا معارك مختلفة يتحتم علينا خوضها في لحظة ما ، وليس بالضرورة أن تكون كلها عبارة عن ساحة حرب تتسم بالعنف او العداء ، فقد يكون بعضها مجرد مواجهات سلمية يشترك بها عدة أطراف ، أو هي معركة طرف واحد تشكل فيها أنت مع نفسك العدو والصديق في آن واحد ، والتي تحارب فيها لإتخاذ قرار جرئ وحاسم تنهي به صراعا داخليا أو خارجيا ما فتئ يقض مضجعك ويرخي على حياتك ظلال من الحزن والأسى …

ولعل ذلك يجعلني أفكر أكثر بمفهومي الإستسلام والتسليم في التعامل مع هذه المعارك ، اذ يتسم الإستسلام بالضعف والخضوع للأمر الواقع وعدم القدرة على الإختيار لوجود إعتقاد راسخ بأن نتيجة المعركة محسومة وينطوي ذلك على وهم خفي وسلبية هائلة تشل حركة الفرد وتدفنه حيا ، بينما يقوم التسليم المدروس على مواجهة الموقف بشجاعة وحكمة ، ويتسم التسليم هنا بالقوة والقدرة على الإختيار في أخذ قرار الإنسحاب من معركة خاسرة ، ليحافظ الفرد على نفسه ويحميها من أضرار أخطرها أن يفقد فيها إحترامه لذاته ومعتقداته ، وليعينه هذا التسليم على التقدم للأمام بخطى واضحة وواثقة ، وفي ذلك فوز عظيم اذا ما أردنا أن نضع الأمور في ميزان الربح والخسارة المتعارف عليه …

أحيانا ، أن تتذكر أنك تحارب في معركة خاسرة قد يكون فيه حكمة ما وفائدة تخفف من ضغط ما تربينا عليه من وجوب الإستمرار والمحاولة بكل نفس تملكه لكي تغير بإصرار عنيف ما لا يوجد اي أمل في إصلاحه ، وهنا تكمن على ما يبدو حكمة هذه النصيحة بأن تتمتع ببعد النظر وأن تعمل بشكل ذكي على تصنيف ما يمر بك في الحياة إلى معارك ، بعضها معارك رابحة وهي التي تستحق منك فعلا أن تستثمر فيها كل ما تملك من إيمان لكي تحقق أهدافها ، وبعضها لا يمكن إعتبارها إلا معارك خاسرة عليك أن تعيها وتعمل على تجاوزها لكي لا تغرقك وتستنزف طاقتك عبثا ، ولكي لا تخسر نفسك وروحك في مستنقع فوضاها …

.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى