نحن المنظرون !! / سهى عبد الهادي

نحن المنظرون !! / سهى عبد الهادي

لا شك أن هذا العصر هو عصر المنظرون وصانعو الكلام بإمتياز ، ولعل التجارة الأكثر ربحا ورواجا اليوم هي تجارة الحكي ، فرأسمالها بضع حروف مصفوفة وملتصقة ببعضها بطريقة منمقة ومزخرفة وظيفتها سلب العقول المتعطشة لأي إصلاح ، وإن كانت دعواه تأتي فقط على صورة زفرات صوتية تخرج من أفواه تجار الكلام وصانعيه بإبداع وإتقان فريد ، وهي بلا شك تجارة حرة دون حسيب او رقيب الا ما رحم ربي …

لكن … ماذا لو قمنا برفع الدعم المعنوي المتمثل في اللايكات المجاملة لهذا الكلام المباح لفظا ، وفرضنا عليه من الضرائب ما يجعله يقف عن حده الهزيل ما لم يتحول إلى فعل وتطبيق ولو خوفا وحذرا من غرامات ما بعد النطق المفرغ من معناه ؟ وهنا ما دورنا نحن كأفراد نبتغي أعمالا وليس أقوالا ؟ هل ننتظر إطعامنا التغيير بالملعقة كالأطفال ؟ أم لنا دور أكبر تأثيرا وأعم إنتشارا ؟

للإجابة على هذه الأسئلة نحتاج أن نقف لنواجه أنفسنا أولا ببعض البديهيات التي تضج متراقصة تمردا وإحتجاجا داخل رؤوسنا مثل :

مقالات ذات صلة

** لماذا عندما يخطر في بالنا فكرة ولو كانت بسيطة في شكلها وعميقة في مضمونها نقوم بقمعها ، ننسفها من قيعانها ، بحجة أنها لا تناسب مجتمعاتنا ، مع علمنا ويقيننا أحيانا بصحتها ، لماذا هذا التخوف من البدء ، من أن نكون الاوائل في طرح وتنفيذ فكرة جديدة أو إشاعة سلوك حسن ، فقط لإن عموم الناس قد أجمعت على عدم تقبل ما لم تتعود عليه

** لماذا عندما تشيع الفكرة أو السلوك وتكسب القبول العام ، نصبح اجرأ في تلمس جودتها ومنفعتها ، ومن ثم تبنيها بأريحية اكبر ، فهل السبب في ترددنا هو عدم إقتناعنا منذ البداية بأهمية الفكرة وفوائدها علينا وعلى غيرنا ، أم هي رهبة وإستكانة وعدم شجاعة وجرأة في الوقوف بشكل عملي في صف معتقداتنا التي نؤمن بصحتها ، خوفا من تأليب من حولنا بخروجنا عن ما هو مألوف وسائد

** إذا أردنا إصلاح العالم الذي نعيش فيه لإهتمامنا به ، وحرصنا على أن يسير إلى الأفضل ليغدو محيطا آمنا لنا ولإطفالنا من بعدنا ، فإننا لا نستطيع أن نقف هناك في الزاوية مكتوفي الأيدي ، منظرين ومنتظرين على إستحياء أحد آخر أن يبدأ لنكمل معه ، فالوقت الآن لا يحتمل ذلك ، والكلام وحده لا يكفي ولا يسمن أو يغني من جوع ، وإن كان يخفي بين طياته صدقا مبطنا ، فحتى الصدق اذا لم يرتبط بعمل ذهب هباءا منثورا ولم يؤتي أكله وثماره

** اليوم قبل غدا نحتاج أن نستفيق من سباتنا العميق ، وننفض عنا غبار غفوة طال أمدها ، أن نقمع خوفنا وترددنا في تغيير ما هو مألوف لكنه غير مجدي أو سليم ، نحتاج أن ننطلق وإن كان الإنطلاق بخطوات طفولية صغيرة ، فلا بأس ، نعم البدايات صعبة لكن هل رأيت شخصا يصل إلى القمة دون أن يبدأ ، مستحيل … !!

فكر ، حكم عقلك ، حدد نقطة البداية ، ولا تنتظر الآخرين ، أفضل البدايات أن تبدأ بنفسك ، اذا كنت مؤمنا بما تفكر به ، وبما تسعى له ، فالطريق سوف يكون أسهل ، لإن الإيمان بالفكرة من أهم الدوافع التي تحرك البشر

اذا كنت ممن يحلم بعالم يتصف بالصدق والأمانة والإخلاص والإتقان والمحبة ، وبكل القيم والأخلاق التي تقدسها وتعتبرها أسس لمجتمع نقي وناجح تحلم به ، فابدأ بتطبيقها بنفسك وعلى نفسك أولا ، كن صادقا ، كن امينا ، كن مخلصا ، كن متقنا ، وكن محبا ، ولا تنتظر فردا آخر ليبدأ لكي تتبع خطاه ، كن أنت الأول وليتبعك الآخرون ، والأهم أن تتوقف فورا عن التنظير وتنطلق جادا بالفعل والتطبيق

غريب أمرنا ، نطمح أن نكون الأوائل في كل شئ ، في تحصيلنا العلمي ، في أعمالنا ، في حياتنا الأسرية والإجتماعية ، لكننا نتلكأ ونتلكع ، عند أول إمتحان لنا لنغير هذا العالم الذي نعيش به ليغدو ذلك العالم الذي نحلم به ، فقط لإننا نهاب أن نبدأ ، وعليه نفضل البقاء محتمين خلف متاريس كلماتنا ، مطروبين على صدى أصواتها ، ومحتفلين بعزف ألحان خطب إنتصاراتها …

في عبارة جميلة ومعبرة عن واقعنا يقول الدكتور أحمد خيري العمري في كتابه طوفان محمد ( إن الأفكار لا تنتصر لوحدها … تنتصر عندما تتمثل في الواقع … عندما تنزل إلى الميدان لتثبت فاعليتها أو فشلها …! )

نعم الفكرة دون تطبيق كما هي الحال في أغلب مجتمعاتنا العربية تبقى حبرا على ورق ، فائدتها ومنفعتها محدودة ، لذلك قد نرى الكثير من المتشدقين بالأفكار والمعتقدات إلا أنهم هناك باقون في تلك الحصون المنيعة ، بين دفات الكتب وسحر الكلام المسترخي على ضفاف شفاههم ، دون النزول لميدان الحياة لإختبار فاعلية أفكارهم من خلال إثباتها أو تقديم الأدلة على فشل سواها

ومن الطريف في منظومتنا الفكرية أنها لا تفتقد وجود الإجماع والإتفاق على أهمية شحذ الهمم في نهج السلوك الحسن وتشجيعه ، على أن لا أحد يريد أن يكون هو ذلك المبادر ، او ذلك الفاعل ، بل إن اغلبنا يتقن ويستمتع بتقمص دور المفعول به ، فالكل يريد الإنتظار ليرى ما سوف يحدث … وما سوف يأتي به المنظرون غيره … !!

وأغرب ما في هذه المنظومة المتفق معتنقوها نظريا هو إجماعها على بقاء الحال على ما هو عليه إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُون ) نافيين عن أنفسهم صفة العقل والقدرة على التغيير ، ليبقى التشجيع والحث على القيم السليمة والسلوك الحسن في إطاره النظري والتنظيري فقط ، وفي أحسن حال تبقى الأفكار الخلاقة مجرد دروس عقيمة نملي بها عقول اطفالنا الذين مع الوقت سوف يصيبهم الصمم والشيزوفرينيا جراء التناقض الذي تعيشه هذه الدروس ، والتي لا يجدون لها حيز فعلي على أرض الواقع ، لإننا امسينا جميعا في النهاية مجرد ثلة من المنظرون

نعم أن تسير مع الركب هوالخيار الأسهل ، لكن …

أن ترفع رأسك لتكون مختلفا ، لتصنع شيئا آخر ، لتختار الإتجاه عند مفترقات الطرق الحادة ، لتترك اثرا ، ولتبدأ بتعبيد الطريق لمن يأتي خلفك ، فإن هذا هو الإنجاز الحقيقي ، وهو البداية فقط للوصول بالعالم الذي نحلم به ليصبح حقيقة لا خيال ، فالبداية تقبع في تغيير التفكير ، ويليها تغيير السلوك ، ودرب إصلاح العالم يبدأ بخطوة إصلاح النفس أولا وأخيرا …
وقد كان ستيف جوبز على حق حين قال ( إن البشر الذين لديهم ما يكفى من الجنون للإعتقاد بأنهم سيغيرون العالم .. هم من يغيرونه فعلاً )

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى