كلنا مغفلون

كلنا #مغفلون

م. #أنس_معابرة

عملتْ امرأة لدى أسرة روسية كمربية ومدرّسة للأطفال، إنتهى الشهر الأول ولم تحصل على راتبها، وبعد مرور أكثر من شهرين؛ دعاها رب الأسرة الى مكتبه من أجل إستلام راتبها.

فقال لها: “لقد عملتِ لدينا لمدة شهرين، وإتفقنا على راتب قدرُة ثلاثين روبلاً، وبالتالي يكون راتبك ستون روبلاً عن الشهرين”. فردت وقالت: “لقد عملتُ لمدة شهرين وخمسة أيام، وإتفقنا على راتب قدرُه أربعون روبلاً شهرياً”.

مقالات ذات صلة

رفضَ الرجل الإقرار بذلك وقال: “كلا، بل هو مدوّن عندي ثلاثون روبلاً للشهر، وعملتِ لشهرين فقط”. عندها قالت المربية: “حسناً، كما تشاء”، وإعتقدتْ أنها ستستلم ستين روبلاً فوراً.

ولكن الرجل بدأ بسرد مجموعة من الخصومات من راتبها وأسبابها، ثلاثة روبلات بدل عطلات الأعياد، وخمسة روبلات بدل إجازة مرضها، وسبعة روبلات عن فترة مرض الأطفال، وعشرة روبلات بدل تلف معطف أبنه، وخمسة روبلات بدل تلف حذاء أبنته، وعندما يذكر كل واحدة من تلك الخصومات، يزداد معدل الإحمرار في وجه المربية، ثم ترقرقت الدموع في عيونها، ولم تطق ذلك؛ فسالت على خدها، ولكنها أجابته في النهاية بقولها: “حسناً”.

ولم تقفْ الأمور عند هذا الحد، بل أخبرها بأنه سيخصِم من راتبها ثلاثة روبلات لأنها تسببت بكسر صحن وفنجان خلال فترة العمل، لم ترفضْ أو تعترضْ أو تناقشْ، بل قالتْ: “حسناً”.

بقي من راتبها سبعة وعشرون روبلاً، تقدم اليها وقد بُهتتْ معالم وجهها، وسالتْ الدموع على خديها نتيجة لضياع تعبها خلال الشهرين الماضيين، ثم ناولها المال، أخذتْ المال من الرجل وقالت بخُفوت: “شكراً لك”.

هنا فقد الرجل أعصابه، وصرخ في وجهها: “شكراً؟ شكراً على ماذا؟ على المال الذي أنكرته من راتبك؟ أم على الخصومات التي اقتطعتها من راتبك دون أن يكون لك يد في سببها؟ وبعد أن أكلتُ تعبك وحقك وحق أسرتك تقولين لي شكراً؟ أي مغفلة أنت؟ لقد وضعتُ راتبك كاملاً في هذا المظروف، ثمانون روبلاً، ولكن أحببتُ أن أرى الى أيّ درجة أنت مغفّلة”.

وردتْ هذه القصة في رائعة الكاتب الروسي الكبير أنطوان تشيخوف تحت عنوان “المغفلة”، وكانت من أكثر الروايات قراءة في الأدب الروسي.

والحقيقة أنني وجدتُ أننا لا نختلف كثيراً عن هذه المربية، فلا بد من ان أحدهم يقوم بإستغلالنا، ويسخّر جميع مواردنا لخدمته ومصلحته، ويأكل حقوقنا ولا يعطينا إلا الفتات. الأبن يستغفل أباه وأمه، والتلميذ يستغفل معلمه، والمدير يستغفل موظفه، والشركات تستغفل المديرين، والحكومات تستغفل المواطنين، والدول الكبرى تستغفل الدول الصغرى، نحن ندور في حلقة كبيرة من الإستغفال والمغافلة.

لقد قرأت مقولة مشهورة للكاتب الكبير غسان كنفاني حيث يقول: “يسرقون رغيفك ثم يعطونك منه كِسرة، ثم يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم، يا لوقاحتهم”. ولكن كيف تكتفي انت بان تقول: “يا لوقاحتهم”؟ لماذا سكتَّ حين أخذوا الخبز منك؟ لماذا رضيتَ بالجوع وقبلتَ أنت تكون مغفلاً؟ أنت لم ترضَ بالجوع فقط، بل أسلمتَ نفسك وروحك وجسدك لهم، لقد وقعتَ معهم صكاً بالموافقة على إستعبادك دون مقابل.

أحترم كثيراً تلك الفئة المسالمة التي تخشى على مشاعر الآخرين أكثر من خشيتهم على أرواحهم، تلك الفئة التي تُقبل على التضحيات من أجل رفاهية الآخرين، ولكن يجب أن نضع حداً لكل تلك الطيبة التي قد نبالغ فيها أحياناً.

لا يوجد ما يمنعك من أن تكون طيباً وديعاً، وتطالب بحقك في نفس الوقت، أو أن تقول جمل الإحترام والتقدير لمديرك، وتلحقها بطلب الراتب كاملاً مع العلاوات، أو أن ترد على طلبك جارك بإبتسامة جميلة وكلمة طيبة وتجاوبه بكلمة “لا”، ولا أن تقول لولدك حين أرد إستعطافك ناحية أمر معين: “مرفوض”.

إذا كنت تعتقد أن المطالبة بالحقوق، واللين في التعامل مع الآخرين لا يجتمعان؛ فأنت بحاجة الى تعديل بعض المفاهيم لديك، وإذا كانت طيبتك الزائدة أو خوفك على مشاعر الآخرين تدفعك للتنازل عن بعض حقوقك فأرجو أن تعيد قراءة هذا المقال مرة أخرى، وأنا تتأكد بأنك لست عُرضة للإستغلال، أو أن هنالك من يستغفلك.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى