طواحين الهواء / د . هاشم غرايبة

طواحين الهواء

كثر الحديث مؤخرا عن الدولة المدنية ، لكن الإستخدام المفرط لهذا الشعار لم يكن بهدف رفض النقيض وهو الدولة العسكرية أو الديكتاتورية، باعتبار أن استيلاء العسكر على الحكم هو اغتصاب ما ليس من حقهم فدورهم الدفاع عن حدود الوطن، والطريقة الوحيدة لتداول السلطة هي الإنتخاب الديموقراطي وليس الإنقلاب العسكري.
الهدف المباشر والمعلن هو رفض صورة متوهمة غير موجودة ولم توجد أصلاً في تاريخنا الحديث، هي ما يدعونه الدولة الدينية الديكتاتورية، يبدو أن هؤلاء النفر أقفرت جعبتهم من الشعارات المعتادة: تحرير فلسطين .. الوحدة القومية العربية .. إزالة آثار العدوان .. ممانعة مشاريع الإستعمار .. الخ ، إما أنها أفرغت من مضمونها فلم تعد لها قيمة أو أنها قد نالها العطب من طول التخزين بلا استعمال، فبحثوا ونقبوا عن الجديد المقنع، فلم يجدوا غير هذا الشعار البائس.
المشكلة أن الدولة العربية ومنذ مائة عام هي مدنية كما يشتهون، ونظامها ليبرالي، وليست دينية بالمطلق!، فاين سيكون النضال إذن طالما أن المطلوب متحقق ومن غير حاجة للمطالبة به ؟
ليس من سبب لذلك إذا إلا أنها من باب التحوط وسد السبل، لكن ذلك أيضا لا حاجة له، فالقوى الدولية الكبرى ساهرة لا يغمض لها جفن في سبيل منع ذلك.
لا يبقى من تفسير إلا الهروب من استحقاقات هامة كثيرة مطلوب النضال ضدها، واللجوء الى محاربة طواحين الهواء التي لجأ ” دون كيشوت ” الى محاربتها بعد أن فشل في اثبات فروسيته لمحبوبته حتى يكبر في نظرها، لكني أخشى أن يلقى هؤلاء المصير ذاته الذي لاقاه هذا المهووس بالبحث عن المعارك، فقد قذفته الطاحونة بعيدا مكسر الأضلاع وظلت تدور كما كانت .
لنبحث في أصل هذا المسمى – الشعار، فالمقصود هو النظام السياسي الديمقراطي الذي يضمن المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين، نظريا هذا هو النظام المتبع في كل دول العالم ، لكن التطبيق العملي فهنالك تفاوت، فالأغلبية في أي بلد تستأثر دائما بأوفر الحصص، قد تكون هذه الأغلبية عرقية أو قومية أو دينية أو مذهبية أو حزبية .. الخ، فجميع البلدان فيها هذا التنوع، ومن هذا الباب تدخل النزاعات، وحتى في أية بقعة مهما صغرت يبقى التنازع بين قاطنيها حتى ولو كانوا أبناء الأب والأم ذاتهما.
إذن بذور المشكلة موجودة وهي متعلقة بالطبيعة البشرية، لذلك توصل النظام السياسي منذ عصور سحيقة أن دولة القانون هي الحل الأمثل، وتم الإتفاق على أن تشريعات تطبق على الجميع بلا محاباة تضمن العدالة وبالتالي يستتب السلم المجتمعي، لكن ظهر أن الطمع في المال والسلطة هي أسوأ منقصة للنفس البشرية، لذلك كثيرا ما تلجأ السلطة الى تطويع التشريعات حسب هواها ولا تفلح الرقابة التشريعية في لجمها إلا قليلا.
لذلك أنزل الله التشريعات الإلهية العادلة كمرجع وملتجأ من الظلم البشري.
لما وجد المنتفعون من مكاسب السلطة أن ذلك سيحدد كثيرا من مصالحهم لجأوا الى محاربة الدين بكل وسيلة ابتداء من التشكيك في وجود الله ثم الأنبياء ثم رسالاتهم ثم رفض الرسالة الختامية ومرجعيتها القرآن الذي يحتوي التشريعات الكاملة المفصلة، وأخيرا الطعن في مقدرة الدين على تحقيق العدالة أي اعتبارهم الدولة الدينية تمثل الديكتاتورية … والنقيض لها هو الدولة المدنية العتيدة !
لن أتحدث عن أن الدولة الإسلامية تقدم من الضمانات لحقوق المواطنين أضعاف ما تقدمه أفضل نسخة محسنة من دولتهم التي إليها يدعون، فذلك يبقى إنشاء مقابل إنشاء، لكن حجتي هي ما سأختم به بفقرات من صحيفة المدينة، وهي أول وثيقة مدنية سياسية في التاريخ تحدد مباديء المواطنة، وصدرت في السنة الأولى للهجرة:
“هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن اتبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. إنهم أمة واحدة من دون الناس.”
“وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.”
“وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم”.
“وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.”
“وأن اليهود أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.”
“وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم”.
“وأنه لا يأثم أمره بحليفه وأن النصر للمظلوم.”
ولمن أراد الإطلاع عليها كاملة فهي موجودة على موقع المعهد الدولي لحقوق الإنسان بجامعة دي بول شيكاغو .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. والله انك اصبت عين الحقيقة…لكن مصالح الدنيا عند البعض أهم من صالح الامة…الله المستعان

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى