ردي على #المعترضين على الحيادِ الفلسطيني
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
استغربت من حجم الردود المختلفة التي وردتني على خلفية مقالي السابق، المعنون بـــ “التدخل #الفلسطيني المحمود والتدخل الفلسطيني المرفوض”، فقد انهالت علي ردودٌ متباينة، وتعليقاتٌ متناقضة، وانتقاداتٌ مختلفة، ٌأتجاوز كلياً عن تلك التي طالتني واتهمتني، وشككت في قلمي وفكري، وولائي وانتمائي، رغم استنكاري لها واعتراضي على أصحابها، الذين يتجاوزون النص إلى القلم، والمضمون إلى الشكل، والمحتوى إلى العنوان، ويصبون جام غضبهم على الكاتب ويتجاهلون رأيه.
وقد كان بإمكانهم المحاججة والحوار، والنقاش والسؤال، ولكنهم يستسهلون الشتائم والسباب، ويتقنون التشويه والإساءة، ويجدون أنها أيسر الطرق نحو الهدم والتخريب، والتدمير والتعريض، فهي لا تحتاج إلى ثقافة أو معرفة، ولا إلى علمٍ ودرايةٍ، وإنما إلى رصيدٍ كبيرٍ من البذاءة وسوء الأخلاق، وغنىً في مفردات السوق ومصطلحات الدهماء، وهم فيها يتميزون ويبرعون، ولها يحفظون ويتقنون، ولهذا سأتجاوز ردودهم التي لا تدل إلا على شخصياتٍ جاهلةٍ وأفكارٍ ضحلةٍ ونفوسٍ مريضةٍ.
أما الردود الموضوعية العلمية الرصينة التي أحترمها وأقدرها، فقد جاءتني من جهتين مختلفتين، هما في الأصل متناقضتين وغير متفقتين، وبينهما خلافاتٌ كثيرة على أغلب القضايا العربية الراهنة والأحداث الجارية فيها، سواء في سوريا والعراق، أو في اليمن والسودان، أو في تونس ومصر، والتي تمتد إلى الدولتين المسلمتين الجارتين الكبيرتين، تركيا وإيران، فضلاً عن السعودية ودول الخليج العربي التي انساقت نحو التطبيع، واعترفت بالكيان، وتبادلت معه الزيارات، وأنشأت وإياه مختلف العلاقات.
طالبني البعض بأن أكون موضوعياً ومنطقياً، وأن أكون عربياً فلسطينياً، فلا أتناقض مع هويتي وقوميتي، وألا أنأى بنفسي وبفلسطين وأهلها عن قضايا العرب المحقة، التي تعبر عنها شعوبها، أو يدافع عنها قادتها، ويرون أن قضاياهم عادلة وصريحة، ومعلومٌ فيها المصالح الوطنية والقومية العربية، ومكشوفٌ فيها التآمر والارتباط، والعمالة والارتهان، ولذا كان ينبغي علي شخصياً، وعلى الفلسطينيين عموماً، أن نكون مع الدول العربية، التي وقفت إلى جانب الفلسطينيين وأيدتهم، وساعدتهم وساندتهم، وأمدتهم على مدى عشرات السنوات بالأموال والمشاريع، التي جعلت قضيتهم حاضرة، وحياتهم كريمة، وشعبهم عزيزاً، وهو الذي يعيش أبناؤه بكرامةٍ في البلاد العربية، ويعملون فيها بشرفٍ وأمانةٍ، ويتكسبون منها بطمأنينةٍ واستقرارٍ.
استغرب هذا الفريق الذي أجلُ وأقدرُ، وأناقشه وأحاوره، ألا يعلن الفلسطينيون وقوفهم الصريح والواضح، وتأييدهم العلني والعملي، للملكة العربية السعودية وتحالفها في عملياتها العسكرية ضد “المليشيات الحوثية” في اليمن، واعتبار ما يقومون به في اليمن مهمة قومية عربية رائدة بامتياز، تستحق التضامن العربي، والدعم الشعبي والرسمي، وتوجب على الفلسطينيين دعمها وإسنادها، اعترافاً بالفضل ورداً للجميل، والتزاماً بالتضامن العربي والإخاء الشعبي.
كما وصلتني ردودٌ تستنكر الصمت الفلسطيني إزاء ما تتعرض كل البلاد العربية من عمليات انتهاكٍ سافرةٍ لسيادتها، واعتداءاتٍ على أرضها وسرقة لخيراتها وثرواتها، واعتبروا أن الصمت إزاء عمليات التدخل الأجنبية في بلادنا العربية، وعدم إدانتنا لها أو اعتراضنا عليها، إنما هو تواطؤ وخيانة، وتفريطٌ وتنازلٌ، وأن تحالفاتنا بهذا الشأن مشبوهةٌ وغير مقبولة، وهي تسيء إلينا ولا تخدم قضيتنا، وهي تقود إلى مزيدٍ من التمزق العربي، الذي لا يستفيد منه إلا المعادون للعرب والمتآمرون على بلادهم.
علا صوت هذا الفريق متهماً إياناً بالتحالف مع أعدائهم، والتعاون مع خصومهم، والولاء للفرس تارةً وللترك تارةً أخرى، وأننا لا ندين تدخلهم، ونسكت عن جرائمهم، ونوافق على اقتطاعهم للأرض العربية، واشتراكهم في الحروب الدموية التي تجري فيها، ولا نقوى على انتقادهم أو الاعتراض عليهم.
بينما رأى آخرون أننا ناكرون للجميل، ولا نحفظ الفضل ولا نشكر أصحاب السبق، وأننا لسناء أوفياء ولا مخلصين، وأننا لم نقدر تضحيات الشعوب العربية التي قدمت إلى جانب الدعم المادي، تضحياتٍ كبيرة في الأرواح، وأخرى أثرت على حياة المواطنين ورخائهم، في الوقت الذي نطلق فيه أبواقنا الإعلامية تنتقد السياسات العربية، وتسيء إلى الأنظمة والشعوب، وتستخدم ضدها أبشع الصفات وأشنع النعوت، بحجة اعترافها بــ”إسرائيل”، وتطبيع العلاقات معها، بينما يقوم الفلسطينيون أنفسهم، سلطةً وقوىً وأحزابَ، بالتعامل مع الإسرائيليين والتنسيق معهم.
بالمقابل وصلتني عشرات الرسائل الأخرى، التي تنتقد مقالي وتعتبره تخاذلاً وجبناً، وتطالبني بأن أكون شجاعاً وصريحاً، وأن أكون صادقاً ومنصفاً، وإنسانياً مؤمناً، فأصف الحرب على اليمن بأنها حربٌ ظالمة، وأنها عدوانٌ سافرٌ، تستهدف الأطفال والنساء وشعب اليمن.
وأن يكون لي موقف مما يتعرض له الشعب البحريني، الذي يعاني من محنةٍ كبيرةٍ وحربٍ قذرةٍ يشنها نظامه على فئاتٍ من شعبه.
وأن #الانقلاب #العسكري في السودان نفذته قوىً متحالفة مع #إسرائيل ومتعاونة معها.
وأن #سوريا تتعرض لمؤامرة دولية كبرى، تشترك فيها الأنظمة العربية، التي غذت أطرافها بالمال، وأمدتهم بالسلاح، وساهمت في خلق داعش، وأشرفت على جرائمها خدمةً لأهدافها، وأملاً في الوصول إلى غاياتها المشبوهة.
وأن ما حدث في تونس انقلابٌ على الدستورٌ، وإقصاءٌ للشرعية وتعطيل للعملية السلمية.
وعلا صوت بعضهم منتقداً صمتي في مقالي عن #الاعتقالات والمحاكمات #السعودية لمقيمين #فلسطينيين، وعن الهرولة العربية نحو الكيان الصهيوني، وعمليات التطبيع معه، وعن مساعي الحصار العربية لقطاع غزة، ومحاولات تجويع أهلها وتركيعهم، وعن الجهود التي تبذل لشيطنة المقاومة والمقاومين، وتصنيفها إرهاباً وعملاً غير مشروعٍ، والمساهمة في حصارها وتجفيف منابعها واعتقال أبنائها والحرب عليها.
كنت قد كتبت مقالي مقتنعاً به وموافقاً عليه، ومتأكداً منه ومصراً عليه، فقد أخذت الدروس وتعلمت مما مضى، أن على الفلسطينيين أن يقفوا على الحياد، وألا ينحازوا مع فريقٍ ضد الآخر، ولكنني وبعد الرسائل التي وصلتني، والردود التي قرعت آذاني، والتي آذى بعضها نفسي، وجدت أنني كنت مصيباً في رأيي، وحكيماً في قولي، وأن على شعبنا الفلسطيني أن يبقى محافظاً على حياده، وملتزماً بسياسة النأي بالنفس عن الصراعات العربية، ذلك أن أحداً في حال أعلنا انحيازنا، لن يغفر لنا موقفنا، أو يقبل عذرنا، ويقتنع برأينا، فكل فريقٍ يريدنا معه ولجانبه، وإلا فإنه سيكون علينا وضدنا إن خالفناه وأيدنا غيره.
بيروت في 30/10/2021
moustafa.leddawi@gmail.com