سايكس بيكو نسي أن يُقسِّم بطني! / مادلين احمد

سايكس بيكو

حين بدأتُ بملاحظة بروز بطني وانتفاخه في أواسط الشهر الخامس من حملي، كان لا بد لي من القراءة واكتشاف ما قد يشعر به هذا الكائن القريب جداً من قفصي الصدري، البعيد جداً جداً عن كفي. كان لا بد لي من فهم هذا العالم داخلي، الذي لا أراه، كيف هو بطني من الداخل، كيف يشعر جنيني الحي بين الأحشاء والدم والنبض! كان هذا أكثر ما فكرت به. وحين بدأ جنيني بالحراك، أحسست بالرعب الحقيقي ولم أنم في تلك الليلة وكدتُ أبكي من شدة الخوف! تملكني شعور حقيقي بأن هناك بشري يستطيع الحراك والركل يسبح في بطني، بشري كل ما يفصل بيني وبينه طبقات من جلدي تحتضن لحمي!
حاولت مراراً أن أشعر بما يشعر، فحين كنت أضع يدي على بطني كنت أتعمد أن أباعد بين أصابعي لرسم خيال يد واضحة المعالم بدل أن أضع كفي ليرى خيال كتلة بلا معنى. وكنت أعلم بأن صوتي يصل له كما لو أني أغني من عُمق البحر بألف لحن يتموج مع موجة صوتي، كنت حزينة عليه، ما الذي تراءى لي ليجعلني أحزن لا أدري، ولكني كنت حزينة عليه. حين استقبلته أخيراً شعرت بالأسف وبكيت كثيراً، قرأتُ حينها بأنه يشعر بالخوف من هذه الدنيا الكبيرة! كان في بطن وعالم ووطن ودنيا تتسع له فقط، تعود على ظلمته والأصوات المتموجة البعيدة ونبض القلب القريب، كان ينام بين الأحشاء سعيداً مطمئناً.
إنه لمن الغريب أن ترتبط مشاعر الأمومة بمواضيع لا تمت للأمومة بصلة، ولكني أختبر الآن هذه المشاعر مرة أخرى. أختبرها في حرب بعيدة، أرض تحتضن أجنة أحياء في بطنها، وأجنة أخرى تسبح فوق بطنها. بعيدة أنا عن غزة، بحكم أنني أنتمي لمدينة أخرى وكنت مغتربة طوال حياتي، لم أعش لحظة لأفكر بما يُفكر هؤلاء المجاورين للموت. وعلى الرغم من أنني في غربتي كُنت مُحاطة بأناس ينتمون لتلك الأرض ولكني لم أفكر يوماً بسؤالهم عن أرضهم! كُنت أجهل قيمة الأرض في ذاك الوقت. وحين بدأت باكتساب البصيرة التي تقول لي ” كل هذه الأرض لك، وكل هؤلاك أهلك ” بدأت باكتشاف كل الأراضي بلا أي خطوط لسايكس بيكو في عقلي، كلها لي ولا شأن للاتفاقيات في عقلي وقلبي.
هذا الوقت وما به من وسائل تُقرب البعيد، وتجعلك تراه بالصوت والصورة مُستهزئاً بكل الاتفاقيات السرية والعلنية. فأنا لم تطأ قدماي فلسطين قط ولكني أملك من الأصدقاء من يُريني كل أزقتها وكل حمامة ترف بجنحانها على أسطحها، هُناك رهف صديقتي من القدس التي أخذتني بجولة مباشرة وصورت لي طريقها كاملاً، بشوارعه، ونوافذه، وشرفاته وحتى زهوره التي تتسلق على بوابات أصحابها. وهناك أسيل التي أهدتني عدسة هاتفها وصورت لي صلاة العيد من باحات الأقصى، وعلى الجانب الآخر هناك صديقة من غزة تُرسل لي مقطعاً صوتياً لأصوات الطائرات فوق رأسها، وأخرى تُخبرني عن قصف نال من جارهم حين كان يستحم بسلام، وآخر يخبرني عن صديقه الذي ودعه بعد نهاية يوم عادي ليُترك شهيداً بعد عشر دقائق فقط من سلام الأيدي. والكثير الذي لن يكفيني قوله ولن تكفيني مشاعر الأمومة لأن أحسه. الرعب، هذا ما أشعر به حين أقترب من هؤلاء، تماماً كما شعرت حين تحرك جنيني وتساءلت ” بشري حي يتنفس ويركل داخل بطني بين الدم والأحشاء! ” وهم بشر أحياء يتنفسون ويركلون بطن هذه الحرب، ما الذي يشعرون به وسط هذه الأحشاء؟!
فشلتُ حقاً باختبار ما يعيشونه، وإنه لمن الظلم أن يكون بينك وبين الحرب خط رُسم من فرنسي ووعد أعطي من بريطاني، ويأتي أمريكي ليُهديك موقعاً تتواصل به اجتماعياً مع الحرب. أشعر بأنهم أجنتي، وفشلت للمرة الثانية أن أجد جواباً يقول لي بصراحة ” هذا هو الشعور داخل البطن بين الدم والأحشاء والنبض! ”

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى