القبر، الصنم المُستفز! / مادلين أحمد

القبر، الصنم المُستفز!
كنت في السادسة عشرة حين لفظت أمي أنفاسها الأخيرة، كنتُ هناك في غرفتها 204، رأيتها تتجرد من كل الأجهزة التي تُقاوم الموت معها، رأيت البكاء والحزن في عينَي أبي وإخوتي وإخوتها وكل من نعرفهم. حتى أنني كُنت في الطائرة نفسها التي تنقل جثمانها من بلاد الغربة لتُربة وطنها. كنت حين ودعوها، وصلوا عليها، وخبأوها في بطن الأرض، وحتى كنت حين شربوا القهوة وأكلت التمر معهم.
كنتُ في كل هذا، وأيقنت بأنني لن أراها بعد ذاك اليوم.

بعدها بسبع سنوات، كُنت أنا في الغربة، وأبي لفظ أنفاسه الأخيرة في وطنه، لم أودعه ولا أعرف كيف كان شكله حين قرر الإقامة في الموت، لم يبكِ معي أحد، ولم أشاهد أحدهم يصلي عليه، ولم أعرف في أي جزء من بطن المقبرة خبأوه، ولم أشرب قهوة موته ولا أكلت تمره! ولم أقتنع بأنني لن أراه بعد ذاك اليوم!

أمس كانت زيارتي الأولى لقبره الذي أخذ مني وقتًا طويلاً حتى وجدته، لم أصدق أن يكون اسم أبي على ذاك الشاهد، أو أن أرى أبي بعد كل تلك السنوات تحت كومة من الحجارة لأصرخ ” وجدت أبي! “. جلست ويدي على خدي أمام اسمه منتظرة أي سحر أو شعوذة يجعلني ألمسه أو أن أتخيله أو أن يُعيد الموت حساباته قليلاً فأنا لم أكن أملك في هذه الدنيا سواه. بعد أن شُلت يدي على خدي فتحت حقيبتي وقمت برش عطري على شاهده، لا أعلم من أين جاءتني تلك الفكرة ولكني مسحت وجه شاهده بعطري. توجهت لقبر أمي الذي يظلله الزيتون ولكني وقفت في منتصف ذاك الشارع. لقد تفاجأت حين أدركت بأنني قد مشيت مع أبي مرارًا في هذا الشارع لنزور قبر جدي، لقد كان أبي طوال هذه السنوات يمشي بجانب الحفرة التي ستبتلعه دون أن يدري، ولا حتى أنا كنت أدري.

مشيت قليلاً وقلت لمن يُرافقني: ” أعتقد بأن فكرة القبر هي فكرة سخيفة! ” ما هذه النهاية التي تجعلك لا شيء في الأرض، لا شيء، ولا حتى بذرة تُزهر حين تمطر على قبرك السماء، ما هذه القبور العقيمة المُستفزة!
وتعودت بالطبع على ردة فعل كل من يسمعني أتحدث عن الموت بهذه النبرة “الكافرة”، كيف يُمكنني أن أُسعَد أو أرتاح لزيارة صنم! أهذا هو الإيمان فعلاً! لعل إيماني يحتاج كومة أكبر من الحجارة. لعل إيماني يحتاجُ قدرة على أن يُسافر بالزمن ليُنصفني، ليجعلني مع جثته حين كانوا جميعهم معه، ليجعلني حاضرة في عزاء الرجل الذي لا يملك ابنة سواي، ليجعل دمعي يُخالط دموع الجميع بدل أن حفر على خدي في غربة وحيدة قاتلة، أو على الأقل لأقدم القهوة وأجمع نوى التمر من أيدي الحزانى!

ولكني لم أكن في كل هذا ولن أقتنع بأنني لن أراه بعد اليوم، وهذا القبر لن يكون أبي!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى