الرؤية الاقتصادية لرئيس وزراء سنغافورة السابق

#الرؤية #الاقتصادية لرئيس وزراء #سنغافورة السابق
#موسى_العدوان

سنغافورة دولة صغيرة تقع في جنوب شرق آسيا، تبلغ مساحتها حوالي 700 كيلومتر مربع، وعدد سكانها حوالي 5 ملاين نسمة من عرقيات واديان متنوعة. كانت هذه الجزيرة مستعمرة بريطانية في أواسط القرن الماضي، وكانت هذه الجزيرة تفتقر للموارد الطبيعية، وأكثر تخلفا من الأردن في ذلك الزمان، ويعاني سكانها من البطالة، والركود الاقتصادي، وأزمة السكن، والفساد الإداري. ولكن تكمن أهميها في موقعها على خطوط الملاحة البحرية بين الشرق والغرب.

في عام 1959 أنتُخب ” لي كوان يو ” كأول رئيس لوزرائها بعد فوز حزبه بالانتخابات. ثم انفصلت الجزيرة عن اتحاد الملايو ( ماليزيا )، ونالت استقلالها عام 1965. وقد وصف رئيس وزرائها الجديد المشهد الذي يكتنف الجزيرة قائلا :

” بعد الانفصال عن الملايو وجدت كل شيء حولي ينذر بالانهيار. فنسبة البطالة تقارب 15 %، والدولة الجديدة تكاد تخلو من كل شيء، البنية التحتية متخلفة للغاية، المدارس والجامعات لا تفي بالحاجة، القوة العسكرية مؤلفة من كتيبتين ماليزيتين، قوات الشرطة لا وجود لها من الناحية العملية، الغليان العنصري والديني يهدد بالانفجار في أية لحظة، التهديد الخارجي لم يتوقف، ومانت مليزيا تنتظر فشلنا على أحر من الجمر، لتستخدم القوة في إعادة سنغافورة إلى حظيرة البلاد “.

مقالات ذات صلة

كان الرئيس ” يو ” يتمتع بالرؤية الثاقبة وبعد النظر، والتصميم على بناء الدولة، رغم كل التحديات التي كانت تواجهه. فركّز خطته على ” بناء الإنسان ” من خلال النهوض العلمي، وعدم إضاعة الوقت في الإصغاء للإذاعات، ومنع الناس من التجمهر إلاّ لأداء الصلاة، وأغلق السجون ليفتح المدارس بدلا منها. كما حارب الفقر والبطالة من خلال مشاريع ناجحة، وجعل لكل مواطن بيتا يسكن فيه، بدلا من أكواخ الصفيح على ضفتي النهر، ثم أقام نموذجا مثاليا للحكم في البلاد.

وفي تطبيق رؤيته الاقتصادية، لم يعتمد الرئيس ” يو ” على لجان وخلوات اقتصادية، على أحد شواطئ الجزيرة، لتستنزف الوقت وتخرج بتوصيات فاشلة تكرّس التخلف، بل أعتمد في رؤيته النهضوية، على محاور رئيسية ثلاث هي :

  1. محور التعليم. فقد أورد في مذكراته ما يلي : ” الدول المتحضرة تبدأ نهضتها بالتعليم، وهذا ما بدأتُ به عندما تسلّمت الحكم في دولة فقيرة جدا. أوليت الاقتصاد اهتماما أكثر من السياسة، والتعليم أكثر من نظام الحكم، فبنيت المدارس والجامعات، وأرسلت الشباب إلى الخارج لتلقي العلم والاستفادة من دراساتهم لاحقا، في تطوير الداخل السنغافوري “.
  2. محور التوظيف الحكومي. اعتمدت حكومته على التوظيف، بدرجة عالية من المهنية والثقافية، وذلك من خلال مناظرات ومسابقات مفتوحة للجميع. ويقول في هذا الصدد : ” بعد عدة سنوات من الخدمة الحكومية، أدركت أنني كلما اخترت أصحاب المواهب كوزراء وإداريين مهنيين، كلما كانت سياستنا أكثر فعالية وأكثر انتاجا “.
  3. محور تحديد النسل. تبنت الحكومة سياسة تحديد النسل، بحيث لا تتجاوز زيادة نسبة السكان وهي 1,9 % في عام 1970 و 1,2 في عام 1980، وذلك تجنبا للانفجار السكاني الذي يعرقل التنمية. وبعد أن تعافى الاقتصاد، اعتمدت الحكومة برنامجا معاكسا، يهدف إلى تحفيز المواطنين على زيادة النسل، لتوفير الأيدي العاملة التي نحتاجها. وهكذا حققت سنغافورة بقيادة رئيس وزرائها ” لي كوان يو ” معجزة اقتصادية عظيمة، في فترة لا تزيد عن ثلاثة عقود، وتحولت من دولة متخلفة إلى دولة صناعية، تنتج مختلف المواد التجارية والإلكترونية، وتكرير النفط، وبناء السفن، وصناعة السياحة، رفع دخل الفرد السنوي في بلاده، من 1000 دولار عند الاستقلال إلى 30000 دولار في بداية الألفية الثالثة. وحوّل بلاده من مستنقعات تعجّ بالذباب والبعوض، إلى مركز استثماري وسياحي عالمي، يكتظّ بناطحات السحاب. ويمكن لأي قارئ أن يطلع من خلال الشبكة العنكبوتية، على معالم نهضة سنغافورة الحديثة، التي حولت البلاد إلى قبلة للسائحين والمستثمرين.

في عام 1990 تنازل ” يو ” عن الحكم طوعا، بعد أن تولى رئاسة الوزراء لمدة 31 عاما متواصلة، حقق خلالها لبلاده هذه النهضة الاقتصادية الرائعة. ولكن الدولة حافظت عليه نظرا لإخلاصه وخبراته الفذة في إدارة البلاد، وعينته مستشارا لمجلس الوزراء، لمدة 21 عاما إضافية، لكي يحافظ على الإنجاز الذي تحقق، ويواكب استمرارية تطور البلاد.

وعند المقارنة بين ما أنجزه رئيس وزراء سنغافورة السابق، من تقدم اقتصادي لبلاده خلال توليه الحكم، وما أنجزه رؤساء وزرائنا خلال توليهم الحكم خلال العقود الماضية وحتى الآن، نجد أن هناك بونا شاسعا بين الطرفين. فبدلا من التقدم الاقتصادي الذي تحقق في سنغافورة، الدولة الصغيرة فقيرة الموارد الطبيعية، قابلها من طرفنا تخلف اقتصادي، وتباطؤ في التطور، رغم توفر الموارد الطبيعية. ولكني أستثني من ذلك تقدمنا في ارتفاع المديونية، وفرض الضرائب الجديدة، ومضاعفة عدد السكان المستوردين من الخارج.

وختاما أتساءل : ألا يمكن لخبرائنا الاقتصاديين، الذين يجتمعون اليوم على شاطئ البحر الميت، أن ينقلوا رؤية ” لي كوان يو ” الاقتصادية رغم قِدَمها، بعد تطويرها بما يتفق مع التكنولوجيا الحديثة وبما يناسب ظروفنا المحلية، ويريحونا ويريحوا عقولهم من العصف الذهني المرهق تحت المكيفات، لكي يقدموا لنا : ” رؤية التحديث الاقتصادي وخارطة تحديث القطاع العام ” التي سمعنا بأمثالها مرات عديدة في الماضي ؟

التاريخ : 28 / 8 / 2023

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى