الدعاة والاستدلال بالنصوص (2) !! / عبدالرحيم الزعبي

الدعاة والاستدلال بالنصوص (2) !!
تناولت المقالة في جزئها الأول وصفا لفيديو تم تداوله لأحد الدعاة وهو ينكر تلبس الجن بالإنس ويتكلم في مسائل أخرى تندرج تحت الغيبيات. وقد تم في الجزء الأول إيراد مجموعة من النصوص التي احتج بها وتم الكشف عن أوجه الضعف في محاججته. وسيناقش الجزء الثاني من المقالة ما تبقى من النصوص بنفس الطريقة.
توقفت المقالة في الجزء الأول عند موضوع التلبس، فلم تستوعب مناقشة كل ما ورد في الفيديو حول التلبس. فبعد أن استدل الداعية بمجموعة من الآيات، كما ورد في الجزء الأول، انتقل إلى السنة النبوية ودعم رأيه بالاستئناس بالحديث التالي: “رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يعقل”، ثم علق بقوله: ولم يقل الحبيب المصطفى “والذي تلبس به جني حتى يخرج منه الجني” !! ولعل استدلالا كهذا لم يراع أن كثيرا من الأحاديث النبوية قد تتناول الحالات العامة وتترك الاستثناءات القليلة، فالصبا والنوم والجنون حالات مألوفة لنا جميعا، بينما التلبس ليس حالة عامة مألوفة. ولو أردنا الاستناد إلى منطق الداعية لأمكننا القول أن المكره لم يرفع عنه القلم لأنه لم يرد في الحديث !! ثمة منطق أعوج منغلق على النص لجأ إليه الداعية للمحاججة، ونسي أن هناك مصدرا من مصادر التشريع اسمه القياس !! ومن الملحوظ أن هذه المنطق المنغلق قد تفشى بين الدعاة، فكل منهم يقول لقد قال الله كذا ولم يقل كذا وكذا، وبذلك نستدل على بطلان كذا الثانية !!
انتقل الداعية بعد ذلك إلى موضوع العين، وقال بأنها حق وبأن الإيمان بها واجب، ولا خلاف في ذلك على الأغلب. غير أن الداعية قد أفتى بأن تفسير المشاكل التي تواحهنا على أنها عين هو تفسير غير جائز على الإطلاق !! وهو يفتي بذلك من باب أن التعاطي مع مشكلاتنا يجب أن يتخذ طابع التعرف على أسبابها الحقيقية ومواجهتها بالحلول الواقعية. ولكن ما المانع لو تعرفنا على الأسباب الحقيقية وواجهناها بالحلول الواقعية، كما يشير، وجمعنا إلى ذلك كله تلاوات لآيات الرقية، بما في ذلك سورة الفاتحة وآية الكرسي والمعوذات ؟! ألا نكون بذلك قد أخذنا بالأسباب وتوكلنا على الله، بدلا من الاكتفاء بالركون إلى الأسباب ؟! أليس هذا أفضل وأقرب إلى ربنا ؟!
تحدث الداعية بعد ذلك عن الأحلام والرؤى، والموضوع ليس بجديد، فقد تكلم فيه الكثيرون من قبله. ومن المعلوم أن ما يراه النائم ينقسم إلى رؤيا من الله وحلم من الشيطان وحديث نفس مصدره العقل الباطن وما يسيطر علينا من مخاوف وهواجس. ولنرجع إلى ما قاله الداعية، فهو يرى أن الرؤيا لا تكون إلا للأنبياء والصالحين !! والحقيقة أنها لا تنحصر بالضرورة في الأنبياء والصالحين دون غيرهم، فالرؤيا رسالة ربانية قد تستهدف غير المؤمنين ممن يريد الله بهم خيرا وهداية، وقد تستهدف الجبابرة والظالمين لثنيهم عن مظالمهم، وقد تأتي كتنبيه لعبد من عباد الله ليقوم بعض سلوكياته المنحرفة. بعد ذلك فرق الداعية بين رؤيا الأنبياء ورؤيا الصالحين، فقال أن رؤيا الأنبياء تقع مرة واحدة واستدل برؤيا سيدنا يوسف حين قال: “إني رأيت أحد عشر كوكبا”، وأن رؤيا غيرهم تقع عدة مرات واستدل بقول عزيز مصر: “إني أرى سبع بقرات سمان”. حيث يفيد الفعل الماضي وقوع حدث الرؤيا مرة واحدة بينما يفيد المضارع وقوعه مرارا وتكرارا. هكذا تجاهل الداعية قول أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام: “يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك” !! مع أنه يشير إلى تكرار الرؤيا عند سيدنا إبراهيم !! أضف إلى ذلك أن الآية التي تناولت رؤيا عزيز مصرتقدم سردا لما حدث وتكرر حدوثه مع عزيز مصر في عدة ليال، لكنها لاتعطي حكما قاطعا بضرورة تكرار الرؤيا بالنسبة لغير الأنبياء، فأين الداعية من كل هذا ؟!
خلاصة القول، لم يقف كاتب هذه السطور على صحة أو عدم صحة موضوع التلبس !! ولا يهتم كاتب هذه السطور بالوقوف على هذا الموضوع مطلقا !! وذلك لأن أمور الدين تعطى وزنا بمقدار ما ورد فيها من آيات. وما بين دفتي المصحف لم يتمحور حول موضوع التلبس، بل حول موضوعات التوحيد وإخلاص العبادة لله وعمارة الأرض وتحقيق الوجود الإنساني الأمثل عليها. ولعل تعميم هذه النظرة بين الناس هو الطريق الأجدى للحد من أثر الخرافة عليهم، أما الاستدلال التوظيفي اللامنطقي لنصوص القرآن والسنة فهو معول يهدم الشرع والمنطق معا. ولئن كان الداعية يدرك ما في منطقه من ضعف ويستثمر عجز الجمهور عن كشف ذلك الضعف فتلك مصيبة، وإن لم يكن يدرك فالمصيبة اعظم !!
ملاحظة: يهدف المقال إلى الكشف عن الضعف المنطقي السائد في خطاب الدعاة، ونقد طريقتهم في توظيف النصوص لخدمة آرائهم الشخصية، ولا يهدف إلى الدفاع عن صحة تلبس الجن بالإنس.
عبد الرحيم الزعبي
Facebook: https://www.facebook.com/abdulraheem.alzubi

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى