الإسلام والعلم / د . هاشم غرايبة

الإسلام والعلم
قد لا يختلف إثنان في أن للعلم وتقدمه أثر أساسي في تسهيل حياة البشر وقضاء حوائجهم ، لكن جدلا عقيما سينشب بين من يرى تناقضا بين العلم والدين وبين من يرى العكس .
السبب أن أغلب الناس يقصر مسمى العلم على ما يعرف بالعلم التجريبي ، ويحيطه بهالة من التقديس والتبجيل ، مع أنه منتج عقلي معرفي بشري ، تكوّن حصيلة خبرات متراكمة عبر العصور ، ويتميز بأنه دائم النماء كمّا ومستمر التطور نوعا ، أي أنه ليس قيمة ثابتة محددة بل متغير ودائم التعديل ، فلا يمكن أن يصل درجة الإكتمال ، فما كان حقيقة مسلم بها بالأمس ، قد تنقضها وتعدّلها مقولة بديلة ، إذن فهذا الأمر نقيض القدسية .
وهؤلاء ينكرون النوع الآخر من العلم : وهو العلم الديني الذي هو منتج إلهي ، لذلك فهو مطلق لا يخضع للمقاييس العقلية التجريبية ، فلا يُعدل ولا يُطور ، وقد وصل إلى البشر نقلا عن طريق أنبياء اختصهم الله بتلك المهمة خلال عصور متعاقبة ، وعلى مراحل بحسب مقدرة المعرفة البشرية ، واكتمل بالرسالة المحمدية فأصبح وحدة كاملة متكاملة .
هكذا يتبين لنا أن العلم نوعان مختلفان مع أن أصلهما واحد .. وهو الخالق الموجد للكون ، لكن تحصيل كل منهما مختلف .
تحصيل العلم التجريبي بالواسطة العقلية ، وعن طريق التجربة والخطأ ، وبأسلوب الملاحظة ومقارنة النتائج ، بذلك استطاع الإنسان فهم كثير من الظواهر الطبيعية ، وتوصل الى إدراك أن كل يجري هو تطبيق لقوانين ثابتة صارمة تنظم كل العلاقات في كل الأشياء .. عندما فهم هذه القوانين استخدمها لابتكار آلات وأجهزة .. لكنه لم يتمكن من قهر أو تعديل أي قانون منها ، عندها أدرك أنه لا بد أن يكون وراء ذلك منظم حكيم عالم بخفايا الأشياء مثلما هو عالم بظواهرها … بحث عنه في كل ما حوله فلم يحط به ، فكان التفسير الوحيد أنه قوة خفية لكنها جبارة لا قبل له بها .
بدأ العقل بالبحث عنها بالوسائل الحسية فعجز ، وعندما وصل الإنسان إلى أن معرفتها خارج حدود العقل ، جاء العلم الديني ليهديه لذلك ” قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ” ( البقرة : 38 ) .
كانت الوسيلة البديلة الوحيدة عن العقل لإيصال ذلك العلم للإنسان هي النقل ، ولما كان الإنسان مفطوراً على جدلية الشك واليقين ، فما كان ممكنا أن يتقبل عقله ما وصله عن طريق الأنبياء بتلك السهولة ، رغم انتقائهم من بين قومهم لمواصفاتهم النبيلة التي تَجُبُّ عنهم رذيلة الكذب ، لكن سبب رفضه أنه لا يخضع لأي من المحكمات العقلية التي يؤمن بها ، فجاءت المعجزات قاهرة لما يعتبره العقل معقولا ، بقصد إثبات أن هذه المعلومة صادرة عن القوة القاهرة للقوانين المألوفة ، ومع ذلك كان من رفضها أضعاف من آمن واهتدى .
لكن الطبيعة البشرية الجدلية ظلت متشككة ” وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ” ( الكهف : 54 ) ، وما زالت إلى اليوم تبحث عن مبرر للشك في ما قدمه العلم الديني ، وتبذل جهودا مضنية في البحث عن تفسير بديل .
مما قدمنا نخلص إلى أن العلم فرعان أصلهما واحد ، لكن أسلوب تحصيلهما مختلف ، وبما أن العلم الديني لم يصلنا عبر الأدوات التجريبية ، فلا يصح أن نخضعه لتلك الوسائل ، ولا يمكن أن يقاس بمكاييلها .
لكن في النتيجة ما يحكم القناعة واليقين في كليهما هوالعقل الإنساني ، في العلم التجريبي يعتمد القراءات والقياسات ، فتطابق النتائج للظروف المتماثلة ، تعزز اليقين بصحة الفرضية ، وفي العلم الديني يعتمد التفكر والتدبر لوصول العقل إلى أن خضوع كل الموجودات لنظام موحد يوحي بوحدة الضابط لها ، ووحدة المخلوقات تثبت وحدة الخالق ، وتدبر التزام كل ذلك بالتناغم والتكامل وانعدام الخطأ في العلاقة بينها تدل على حكمة الخالق وهيمنته على كل شيء … عندها لا يجد العقل بدا من الإيمان به .
يبقى التهريف الذي يصدر عن رافضي العلم الديني ، في أنه نقيض للعلم التجريبي بل ومعيق له ، في محاولة استعلائية فارغة لا تسندها الحجة ولا المنطق .
للرد على هؤلاء يكفي القول أن ظهور العلم التجريبي في اوروبا كان في القرن الثالث عشر على يد رائده ” روجر بيكون ” الذي نقله عن العلماء المسلمين من أمثال جابر بن حيان وابن الهيثم وكثيرون الذين سبقوهم بخمسة قرون ، والذين لم يعقهم العلم الديني عن ابداعاتهم التجريبية فحسب ، بل كان رافعة أساسية لإبداعاتهم ، كما أن المذهب العقلي ظهر بين العلماء المسلمين كالغزالي والفارابي وابن طفيل … قبل ثمانية قرون من ظهوره في بريطانيا في القرن السادس عشر ” فرانسيس بيكون ” الذي أسس للمادية الجديدة .

– للإطلاع على المزيد من انتاج الكاتب يرجى الدخول على صفحته على الفيس بوك : صفحة الدكتور هاشم غرايبه

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى