أطباؤنا المحترمون؛ العتب على قدر الأمل

أطباؤنا المحترمون؛ العتب على قدر الأمل
د. رمزي فتحي هارون

نقاط انطلاق:
أولًا: أسجل شكري وعظيم تقديري وأمتناني لفئة كبيرة من أطبائنا المخلصين، والذين قضوا حياتهم، ولا زالوا، في خدمة مرضاهم، والسهر على صحتهم. أُثمّن عاليًا الجهد والوقت الذي يقدمونه لمرضاهم على حساب راحتهم ووقتهم وحاجات أسرهم. لهم جميعًا، أرفع القبعات.
ثانيًا: أعتقد بوجود فئة من الأطباء، أتمنى أن تكون قليلة، دفعتني ممارساتهم لكتابة هذه المقالة. وتهدف مقالتي هذه إلى تسليط الضوء على بعض الأخطاء التي عايشتها واقعيًا وبشكل شخصي.
ثالثًا: هذه محاولة مني للتوصيف، على أمل التصحيح. وهي لا تنتقص أبدًا من احترامي وتقديري لشخوص الأطباء جميعًا، مع ضرورة تسجيل تحفظي واعتراضي على بعض ممارساتهم.

مشاهِد ومُشاهدات واقعية
المشهد الأول:
يخرج الطبيب من غرفة العناية المركزة. يستقبله عدد من الأقارب المحروقين شوقًا وقلقًا على سماع خبر ولو بسيط يفيد بتحسن حالة مريضتهم. رغم أن الطبيب يعرفهم كما يعرفونه، بالكاد ينظر نحوهم ويهم بالمغادرة. يعترضه أحدهم متوسلًا ومتسولًا الحديث إليه. دكتور كيف إمي؟ يخطفه بنظرة باردة ويقول: إن شاء الله خير. دكتور يعني فيه تحسن؟ يرد الطبيب وهو يمشي مبتعدًا عن السائل: على الله.

المشهد الثاني:
في غرفة العمليات سيدة خمسينية، حبيبة زوجها، وهي العيون التي يبصر فيها أبناؤها، هي أخت وخالة لعدد من المنتظرين على باب الغرفة. إنها الآن تحت مبضع الجراح ومشرطه. سيبتر ساقها من حدّ الركبة. لقد نهشتها مضاعفات مرض السكري، ولا مناص من البتر. شُلعت قلوب محبيها من صدورهم حين سمعوا قرار الطبيب بضرورة البتر، فكيف حالهم الآن وهم يتخيلونها برِجل واحدة. انتظار مرهِق والوقت يزحف والساعة لا تتحرك. أدمى أحد أبنائها شفتيه وهو يعضّ عليهما من شدة التوتر. أخيرًا، يُطِل الطبيب. ترتسم على وجهه ابتسامة صفراء خالية من التعاطف، ويحرك فكيه ماضغًا قطعة “علكة” في فمه. ينظر من بعيد صوب أهل المريضة، ويقول: الحمد لله على السلامة. بترنا الساق اليمين من حد الركبة. هي بخير. ثم يمضي ولا ينظر خلفه. يتقطع المحبون القلقون رغبة في سماع مزيد من المعلومات، ويرغبون بطرح أسئلة تخفف عنهم وتطفئ بعضًا من نارهم. لكن الجرّاح يبتعد، ثم يختفي تمامًا مع أول انعطافة لممر المستشفى.

مقالات ذات صلة

المشهد الثالث:
لا تعرف السيدة طيبة القلب ما بها. ما اسم مرضها، وما سبب هذا الإعياء وتلك الآلام التي تشعر بها. زوجها وأبناؤها ليسوا أحسن حالًا. هم أيضًا يجهلون ما يجري. ليس ذنبهم أنهم غير مختصين في أحد العلوم الطبية، ومن حقهم أن يفهموا. يحاول أخوها بدوره، وهو مهندس ويعرف الانجليزية؛ لكن الطبيب المعالِج في عجلة دائمة، وبخيل حدّ الشُحِّ في إعطاء المعلومات. يتصل أخ المريضة المهندس بأخيه الأكبر، وهو طبيب مقيم في بلد آخر. يصادف أثناء الاتصال مرور الطبيب المشرف على أختهما. يُسلّم عليه، ويقول: دكتور، من فضلك، معي على الهاتف أخي الأكبر، وهو طبيب، ممكن بعد إذنك تشرح له حال أختنا المريضة. ينظر الطبيب بكثير من التعالي، ثم يرد: “لو كان أبوي على التلفون ما حكيت معه”. ويهرول مغادرًا. يتمسمر أخ المريضة في مكانه من هول الصدمة، ويعجز عن الرد.

المشهد الرابع:
مضى على وجودها في المستشفى 56 يومًا. لقد ارتكب الجراح الأول خطأً طبيًا تطلب استدعاء جراح آخر ليجري لها عملية ثانية. يعاند جرحها ويأبى أن يلتئم، فهي مريضة بالسكري، وهذا يؤخر الشفاء. تشتاق لبيتها ولغرفة نومها، تفتقد طقوسها اليومية الدافئة بعيدًا عن إجراءات قياس ضغط الدم والحرارة وتنظيف الجرح. ضمن جولته التفقدية، يدخل عليها الجراح مقطبًا وجهه، يرافقه عدد من تلاميذه من طلبة كلية الطب. يسألها دون أن يلقي التحية: “نايمة”؟ لم يكن سؤالًا استفهاميًا بقدر ما كان سؤال استنكاري. تنظر المريضة المتعبة حد الكآبة نحو الطبيب، وتقول: “ايش متوقعني أعمل؟”. يطرح سؤالًا طبيًا حول حالة المريضة على أحد تلاميذه، ثم يبدأ بتقريعه بشدة أمام المريضة وباقي زملائه. يغادر دون أن يقول “سلامتك”، ودون أن يتلطف بتقديم أي معلومة عن حالة المريضة.

تساؤلات مشروعة، وطلبات هي أبسط الحقوق:
أولًا: احذر التضخم في تقدير الذات
سيدي الطبيب: نعرف جيدًا سيرة حياتك، ونفهم كيف شحنك المحيطون بكَ ونفخوك حدّ الانفجار. هل تضخم تقدير ذاتك لدرجة التورم؟ هل لا زلت تشعر أنك منا ومثلنا؟ هل تسمح لنا بتحذيرك من إدراكات المجتمع ومعاييره وتقييماته التي قد تقنعك بأنك فوق البشر، وبأن لديك مواصفات استثنائية يفتقرون إليها؟

ثانيًا: ارحم ضعفهم وجهلهم
سيدي الطبيب: نعي جيدًا أنك تتمتع بسلطة استثنائية مصدرها معرفتك، في حين يعاني المرضى هوانًا شديدًا سببه جهلهم. لكن السؤال: هل يحق لك التجبر على المرضى فقط لأنك تعرف ولأنهم يجهلون؟ هل تدرك حضرتك أن امتناعك عن إعطاء المعلومات يزيد معاناة المرضى وذويهم؟ هل تقدّر أن سماع المريض للأخبار المزعجة عن حالته أفضل من بقائه بدون معلومات؟ ثم، أليس من حق المريض الحصول على المعلومة، ومن واجبك تقديمها؟ سيدي الطبيب: هل تأذن لنا أن نذكرك بقَسَمك المهني، وأن نطلب إليك أن ترحم ضعفهم وجهلهم.

ثالثًا: تبسّط، وأمنحهم دقيقتين من وقتك
سيدي الطبيب: فضلًا، ترفق بهم وتواضع عند التعامل معهم. صحيح أنهم يجهلون لغتك الطبية الصعبة ولا يفهمونها، لكنك قادر على تبسيط الشرح إن نويت. نقدر انشغالك وضغط العمل عليك، لكننا نرجوك أن تقدر خوفهم وقلقهم على صحتهم وحياتهم. امنحهم دقيقتين إضافيتين من وقتك الثمين. ليسوا طماعين، ولن يطالبوك بأكثر منها.

رابعًا: تبسّم، وأجبر خواطرهم
سيدي الطبيب: هل نُثقل عليك إن توقعنا منك إلقاء التحية على المريض وأهله عند الدخول عليهم؟ هل يُتعبك التبسم في وجوههم؟ ما الخسارة التي تلحق بك إن قلت لمريضك “سلامتك”؟ هل تعرف تأثير جملة تجبر بها خاطر مريض وترفع بها معنوياته؟ جملة من مثل “شكلك اليوم أحسن ان شاء الله” أو “اطمن، الأمور منيحة، وان شاء الله بتتحسن”.

خامسًا: كُن ذكيًا، إنسانًا، وتعاطف
سيدي الطبيب: من مات بين يديك قبل لحظات هي “الحالة” 132 في تاريخك المهني. ربما أصبح الموت حدثًا يوميًا محتملًا في عملك، ولم يعد يترك في نفسك ذات التأثير الذي عشته أول مرة. لكن فضلًا، قبل أن تخرج وتخبر أهل المتوفاة، تذكر أنها لا تمثل لهم “حالة”. هي أم وحبيبة وزوجة وأخت وابنة وصديقة. هل تعرف أن معظم ذويها لم يختبروا من قبل فقدان عزيز؟ نرجوك أن تتذكر أنها قد تكون تجربتهم الأولى مع الموت. هي حالتك ال 132، لكنها حبيبتهم الأولى. فقيدتهم التي تموت لأول وآخر مرة.

أختم بالدعاء لكم جميعًا بالصحة وتمام العافية. كما أجدد شكري لكل المخلصين من أطباء وغيرهم من العاملين في الحقل الصحي على ما يبذلونه من جهد، وخاصة في ظل هذه الجائحة، التي أسأل الله أن يُعجل انقضاءها ولا يفوتني أن أترحم على من فقدنا منهم. جعلهم الله من الشهداء. آمين

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى