الأردني الساخر محمد طمليه في " إليها بطبيعة الحال " : نصوص تسير فيها السخرية والألم يداً بيد !

الأردني الساخر محمد طمليه في ” إليها بطبيعة الحال ” : نصوص تسير فيها السخرية والألم يداً بيد !

كتاب ” إليها بطبيعة الحال ” للكاتب والقاص المبدع الراحل محمد طمليه هو آخر كتاب صدر له عام 2007، وهو عبارة عن نصوص قصيرة و مقالات صحفية، عندما تبدأ بتقليب صفحاته تشعر أنك أمام كاتب يريد أن يقول شيئاً مختلفاً عما يقوله الآخرون ويمهد الطريق للقارىء ليكون مستعداً للخروج عن المألوف من خلال نصوص مميزة وممتعة قريبة منا تحاكي هواجسنا وتسبقنا لقول ما نريد أن نقوله.
في هذه النصوص يسير محمد طمليه على نفس النهج الذي سار عليه في السنوات الأخيرة، ويستخدم طريقته الخاصة في الكتابة ليتناول تفاصيل من الواقع وينسج منها قصص وحكايات قصيرة ومكثفة باسلوبه التهكمي الساخر، وبكلمات تسلك طريقها بسهولة إلى نفس القارئ، لأنها بكل بساطة ليست بعيدة عن يومياتنا، ولأنها تسخر من واقعنا المليء بالمشاهد المرّة التي تبعث على السخرية.
هذا الكتاب جاء بعد كتابه السابق ” يحدث لي دون سائر الناس ” مع رسام الكاريكاتير الأردني عماد حجاج والذي صدر في العام 2004 ، وكان أيضاً عبارة عن مجموعة نصوص ومقالات صحفية مدعومة برسوم كاركاتيرية معبرة.
وطمليه القاص الذي تحوّل إلى كتابة المقالة الساخرة التي يحاول من خلالها الاعتناء بالتفاصيل المهملة والهامشية مستغلاً قدرته الفذّة على الانتباه والتقاط المشاهد الدقيقة ولملمة الأحداث الصغيرة ورسم الكلمات القوية والمعبّرة عبر جمل غاية في الرصانة والجودة.
في ” إليها بطبيعة الحال ” يحاول طمليه معاينة الواقع ورصد كثير من المشاهدات والتفاصيل اليومية والإستعانة بالشخصيات الحاضرة دائماً في مقالاته ( أبو العبد ، أم العبد ، سلمى ،…… ) لينقّض على الرتابة ويثور على كل التفاصيل التقليدية ويثأر من الملل !!!
في هذا الكتاب الذي أهداه إلى والدته ” حليمة ” والذي يقول في مقدمته ( من الضروري أن أتهيأ، أن أكون واضحاً بما يتلاءم مع غموض المرحلة ، وغامضاً بما يتلاءم مع وضوح المرحلة …)
يتناول طمليه عدة موضوعات وقضايا ذاتية واجتماعية وحياتية يومية وظواهر تحدث دون سابق ترتيب في مجتمعنا، ويتناول موضوعات سياسية لها علاقة بأحداث معينة تبرز فيها خلفيته وتجربته في العمل السياسي.
في النصوص الأولى من الكتاب بدأ بالحديث عن الموت حيث تحدّث عن أمه، وتحدّث لاحقاً عن وفاة والده في العراق ، وقاده ذلك للحديث عن موت أخيه ” اسماعيل ” ، وعاد بعد عدة نصوص للحديث مرة أخرى عن أمه وعن تجربة الموت في حياته الشخصية حيث بدأ متأثراً في بعض النصوص بوفاة “اسماعيل ” فيقول في أحدها مخاطباً إياه ( حذار من الإعتقاد أنك تركت فراغاً : أنت الفراغ كله . أقولها ثانية أوجعتني عدّ ..) ، وقد غلب على تلك النصوص طابع الحزن الشديد والشعور بالفجيعة والفقدان. وفي نص أخر بعنوان ” المفتاح ” يوصي بأن يدفن في قريته ( ابو ترابة ) جنباً إلى جنب مع ناسها ممن ماتوا غيظاً على حد تعبيره . ويضيف قائلاً عن قريته ( قريتي في الجنوب يمكن الوصول إليها بالمنطاد ..) ويلخص كل هذه الأيام المرّة بقوله : ( أيام فاسدة جنيت فيها خسارات فقط ).
ثم يتحول في النصوص اللاحقة لرصد بعض اليوميات والتفاصيل الحياتية العادية ويتناول بعض الهواجس الذاتية حيث يتحرك طمليه في نصوصه بحرية مطلقة ، ويظهر في بعض النصوص ميله للسرد القصصي المختزل والمختصر ، ويميل لإستخدام بعض الكلمات والجمل العامّية لإيصال الفكرة أكثر، وأحياناً لإعطاء النص طعم السخرية وليكون أقرب للقارىء البسيط، فهو اعتاد أن يكتب لعامة الناس خصوصاً طبقة الفقراء والمهمشين والعمال ويحاول أن تصل كلماته لكافة الناس ولمختلف شرائح المجتمع.
وطمليه كعادته يحب الخروج عن المألوف وخدش ( الحيّاد ) العام كما قال في أكثر من مناسبة، يكره الضجر ويحب مخالفة السياق ويهجو دائماً الملل ويمل من تشابه الأيام حيث نراه يستخدم كثيراً كلمات وتعابير لها علاقة بهذا الموضوع مثل ( ضجر ، إحباط ، تأنيب ضمير ، حسرة على عمر يركض بسرعة….) ، بالإضافة إلى شتم للروتين وإدانة لتفاصيل لا يمل أصحابها من تكرار فعلها ، وتوجيه نقد لاذع للبلادة وللسلوك المتكرر بحكم العادة، ويقول في نص ” السأم يقرع بابي” : ( أيامي رتيبة مثل موال لمطرب مغمور في عرس أرملة )، ويذّكرنا دائماً بــ ( أبو العبد ) مثال الزوج الروتيني التقليدي المتكرش صاحب البيجامة مقطوعة الأزرار عند العورة الغارق في التفاصيل اليومية حد البلادة.
يقول في نص أخر بعنوان ” أكياس قمامة سوداء ” : ( يؤخذ علّي أنني متشائم، هل أنا كذلك حقاً، ويضيف أحب الحياة جداً، ولكني قلق عليها خصوصاً بعد أن صار الموت سهلاً، وبعد أن تعرض الهدوء لإختلال مدروس وبعد أن تحولت البيوت إلى ثكنات تأوي إليها العقارب ) ، وفي نص أخر بعنوان ” رجل خالي الذهن” يقول : ( ضعوني في صورة ما لا يجري ، ما لا يحدث بتاتاً : أحب أن أكون طرفاً في الخواء والركود ، أن أنهمك في السكون : كم هو مريح أن لا يكون هناك تعب..).
في تلك النصوص التي ترتبط ببعض الشؤون الذاتية يحاول التخلص من حالات الضجر فهو يبحث دائماً عن أماكن يحاول من خلالها هزيمة الضجر فتراه يسير في وسط البلد أحياناً وأحياناً في الصحراء ثم يذهب إلى الأغوار وقد يبحث في الزحام عن شيء ما وأحياناً أخرى يضطر للاستسلام فيضطجع أمام التلفزيون.
يلاحظ لاحقاً تحوّل طمليه للحديث عن تجربته القاسية ومعاناته مع مرض السرطان متناولاً رحلة العلاج فيتحدث عن تساقط الشعر والعلاج الكيماوي وخلع الأضراس وخزعة اللسان وتصبح المستشفى ( مدينة الحسين الطبية ) مسرحاً لكثير من الأحداث في كثير من النصوص ، ويظهر ذلك جلياً في نصوص مثل ( قهوة بلا سكر ، يحدث لي دون سائر الناس ، أنا والسرطان وهواك عيشين لبعضينا ) حيث يقول في إحداها : ( اللعنة علّي متطرف حتى في إختيار المرض ) ويضيف وهو يسخر من كثرة عدد مرضى السرطان في الأردن بالسنوات الأخيرة : ( لذلك فأنه يمكن لمستثمرين من القطاع الخاص بفتح محلات وأكشاك لتقديم الكيماوي للعابرين ” كيماوي أبو العبد “)، وقد كانت تلك النصوص مستوحاة من حالة المرض التي عانى منها والتي ارتبطت بتلك الفترة الصعبة.

ومن الملفت للنظر أن نصوص طمليه وكالعادة مليئة بالصور الجميلة والخيال الخصب والجمل الساخرة المتماسكة البناء خصوصاً عندما يتعلق الموضوع بالحبيبة وليس أدل على ذلك من قوله في نص” صورة في البال ” : ( أرهن رأسي لقاء كيس من البصل ليخفق قلبي ثانية ) ، وفي نص ” المرأة الذبابة ” : ( أحب أن تبتعدي مقدار تماس وتقتربي مقدار لهاث ).وعموما ً عندما يتعلق الموضوع بالمرأة يكون له رأي أخر فهو يحاول أن يناضل كي تبقى الحبيبة حبيبة فقط ولا تتحول لاحقاً إلى ( أم العبد ) ويخشى ان تسير تلك الحبيبة في الطريق المؤدية إلى هناك حيث يقول في أحد النصوص عن المرأة ( المرأة ورطة حقيقية ، نوبة سعال كل صباح قرب المغسلة ، قيد منذ قراءة الفاتحة ، كابوس يرتع في المنزل ضمن صلاحيات ليل نهار )، حيث يخشى عليها من الخروج عن صورتها الرومانسية الموجودة في البال ، ومن إطار الفتاة البارعة الجمال الرقيقة الناعمة التي يستجدي حبها إلى ربة بيت لا تجيد سوى الأعمال المنزلية ، أما ( سلمى ) فتبقى رمز للحبيبة والمعشوقة الغائبة والحاضرة المدللة والدلوعة الباسلة والعنود التي يرغب في البقاء معها في ظروف تجلب الشبهة ويقول لها في ” قلم رصاص”: (أنت تلاوين اللغة والمفردات ، سوف وصار ولعّل وحتى ) ويقول لها أيضاً : ( اسمعي جمعيني فيك : تبرعي لي بمقدار جردل من دمك ، أعطني كبدك ، طحالك إذا أمكن ، وأمتار من الأوردة …).
وفي نص أخر بعنوان ” راية بيضاء ” يقول للحبيبة : ( أنني قررت رجم بيتكم بالمنجنيق : سلاح عتيق مثل حبي لك ، توقعي اليوم أو غداً ) ويكمل ( لا تزعمي أنك الخنساء ، وإذا كنت كذلك فعلاً فاعلمي أن سوق عكاظ أصبح سوق حراميه وأنا اللص… ).

ويلاحظ عليه التأثر والإعجاب بالأدب الروسي فيذكر في عدة نصوص كثير من أعلام الأدب الروسي مثل ديستيوفسكي ، وبوشكين ، ويشير أحياناً لبعض نصوصهم ، ويستعين بالتاريخ كلما لاحت له فرصة لربط الماضي بالحاضر أو لتجديد أدوات السخرية من خلال بعض الإسقاطات وأحياناً حتى تكون إضافة قد تساعد على إيصال الفكرة المطروقة في النص ، حيث يقول في أحد النصوص ” الصهيل” : ( ضيفنا هو أبو موسى الأشعري ، الشيخ الودود الذي خدعه عمرو بن العاص ممثل معاويه في عملية التحكيم المشؤومة التي أسفرت عن إنقسام عباد الله إلى شيعة وسنة …)
ويقترب أكثر من الواقع السياسي المعاصر عندما يعلق على ما آلت إليه العلاقات بين الدول العربية و خصوصاً عن موضوع الحدود حيث يعلّق على هذا الموضوع في نص ” ورقة التوت ” فيقول : ( وطن عربي واحد ، مع ضغائن حدودية تعكر صفو العلاقة بين الأشقاء والدم عالدم حامي … ) ويضيف ( أي حدود ؟ من رسم الحدود ؟ ومن يقنع الأعرابي بأن جواز السفر وثيقة هامة ؟ وأن الدينار والليرة والدرهم وغيرها من العملات لا تصلح وأن موظف الجمارك ليس أكثر من غلام ؟…).

مقالات ذات صلة

ويستمر طمليه وبطريقته الخاصة في نقد الأوضاع العامة خاصة السياسية منها سواء على الصعيد المحلي أو العربي أو الدولي ، حيث يتناول بعض الأحداث السياسية والإقتصادية ويسخر من طريقة التعاطي معها من قبل الجهات المسؤولة . ففي عدة نصوص حاول الحديث عن حالة الطقس وخاصة في فترة الشتاء والثلج والمنخفضات الجوية ويعلّق على تعامل الجهات الرسمية مع هذا الموضوع قائلاً في ” حديث الثلج” : ( إجماع وطني على برادة الوجه .غريب ،كان هناك إصرار على ضرورة أن نمكث في البيوت ولا نخرج إلا للضرورة القصوى ، مع نبرة تهديد : الأصل في الأشياء أن يخرج الناس للمشاركة ، اللعنة حتى في هذه يتم إستبعاد الشعب…).
وعلى الصعيد المحلي أيضاً فقد تناول الكثير من القضايا ولفت النظر اليها بأسلوب تهكمي ساخر مثل موضوع كثرة الوزراء في الأردن حيث يقول في هذا الجانب في نص بعنوان ” معالي الشعب الأردني “: ( خمسة ملايين وزير سابق وحالي ومستوزر أنها أزمة حقيقية ، وقد يلجأ الأردن إلى استخدام وزراء وافدين بتصاريح عمل سارية المفعول ، حنفي وزير للمياه ، والأسطه بيومي وزير للأشغال ، والسيدة نبوية وزيرة للتنمية ، ومحمدين وزير مزدوج) ، ولم يخلو الأمر من نقد مواضيع أخرى كالانتخابات وانقطاع التيار الكهربائي على سبيل المثال.

وفي بعض النصوص يتحدث بمرارة تصل لدرجة الحرقة ولا تخلو من سخرية، خاصة فيما يتعلق بموضوع ( العراق ) وتحديداً في نص ” أرض النخيل الحزين ” .وفي نفس السياق يقول في نص أخر بعنوان ” النبيذ ” 🙁 لا النكبة أشبعتني ولا النكسة كانت كافية وما زلت أرغب في المزيد …. ).
ولم تخلو بعض النصوص من نقد سياسي ساخر وبجرعات قوية لمؤتمرات القمة العربية والإسلامية واجتماعات وزراء الخارجية العرب وإدانة للقتال بين الفصائل المتناحرة في فلسطين أو ( الأرض اليباب ) كما قال عنها.

عموماً محمد طمليه كاتب من طراز نادر وله مدرسته الخاصة في الكتابة الساخرة ، ويحظى بشعبية وجماهيرية كبيرة لدى الناس، تمتاز نصوصه بأنها قصيرة لكنها تعج بالقصص والحكايات وتتسرب السخرية من جميع جوانبها حيث تعاين أحداث وترصد ملاحظات وتراقب تفاصيل وتثير الإنتباه…. تستدعي شخوصاً لتدين سلوكياتهم المتكررة ، وتبوح بهموم وهواجس ذاتية ، تستنطق المهمشين ، وتستوحي نفسها من الشارع والرصيف ومن المخيم والبادية ومن المقاهي والأزقة والحارات الفقيرة .
طميله يسخر بجرأة ويمتلك كل أدوات التهكم ويجيد لعبة اصطياد الكلمات المناسبة ويتقن صناعة الجمل المليئة بسخرية التي لها طعم ولون ورائحة خاصة وبمهارة عالية قل نظيرها.
يذكر أن طمليه ولد في مدينة الكرك الأردنية عام 1957 ، وسبق له وان أصدر عدة مجموعات قصصية هي ( جولة عرق ، الخيبة ، ملاحظات على قضية أساسية ، المتحمسون الأوغاد )، و ( يحدث لي دون سائر الناس ) مع رسام الكاركاتير عماد حجاج، وقد توفي في تشرين أول الماضي 2008 بعد صراع مع المرض لأكثر من أربع سنوات.

طالب بشتاوي
ritatree77@yahoo.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى