التاريخ أستاذ / د . هاشم غرايبة

التاريخ أستاذ
في السجالات التي تجري هذه الأيام بين المهتمين بواقع الأمة الحالي ، وفي كل الطروحات سواء منها العقلانية الموضوعية أو المتطرفة المغالية ، تجد قليلين يستلهمون التاريخ فيحللون الأحداث ، ويسقطون التجارب السابقة على الواقع ، لاستنباط العبر والدروس كمقدمة لاقتراح الحل والمخرج من الأزمة .
التاريخ أستاذ موثوق ، لا يَكذُبُ من سأله ، ولا يكرر نفسه ، إنما يلتزم السنن الكونية ، ويطبق قواعد الخالق الصارمة ، فيعطي نتائج متشابهة إن كانت المقدمات متطابقة .
لنأخذ بضعة تجارب استطاعت بها أقوام وشعوب الخروج من حالة التيه والضياع التي مرت بها فترة ، ثم تمكنت من الخروج من الأزمة والإنطلاق بموازاة الركب العالمي المتقدم ، أي مشكلتنا الحالية المعاصرة .
1 – الوحدة الالمانية : كانت الصراعات تمزق الأمم الأوروبية عموما ، ونشبت النزاعات المسلحة ، وكان ” بسمارك ” يسعى لتوحيد الشعوب الناطقة بالألمانية ونجح جزئيا في عام 1871 في جمع كل أمراء المقاطعات للتوحد تحت قيادة الملك فيلهلم الأول وتسميته امبراطورا لألمانيا بعد استسلام فرنسا لبروسيا . ثم استعاد هتلر زمام المبادرة بعد هزيمة ألمانيا من جديد في الحرب العالمية الأولى ، فنهض ببلد محطم مهزوم ليضعه في موقع يهدد باكتساح العالم ، ونجح في البداية لكن توحد الجميع ضده أسقطه في عام 1945 ، لتعود ألمانيا مرة أخرى مهزومة مدمرة مفككة ، ولكن لم يتمكن قرار الدول الأوروبية تفكيكها ومنعها من التفكير في استعادة سابق مجدها من هزيمة إرادتها ، فعادت قوة اقتصادية عالمية أولى ، ثم استعادت توحدها عام 1990 فعادت الألمانيتان بلدا واحدا .
2- التجربة التركية العثمانية : تأسست الإمارة العثمانية كولاية تابعة لمؤسسها أرطغرل في آسيا الصغرى ثم توسعت في عهد ابنه عثمان على حساب البيزنطيين عام 1291، واستكمل السلطان مراد التوسع فضم أنقره وأصبحت عاصمته أدرنه ، وبلغ السلطان بايزيد المجر عام 1396 ، فجزع الأوروبييون وأعلن البابا يونيفاس التاسع حربا صليبية شاركت بها فرنسا وبافاريا والنمسا والبندقية وانكلترا انتصر فيها العثمانيون ، إلا أن تيمورلنك هاجمهم عام 1402 فتفككت الدولة ، لكنها عادت الى التوحد من جديد على يد محمد الأول ، وفي عام 1453 تم فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح ، وكان لإختراع العثمانيين المدفعية أثر هام في تفوقهم على الأوروبيين .
دامت الإمبراطورية حتى عام 1922 ، وتم على أنقاضها تشكيل الجمهورية التركية على يد أتاتورك الذي نفذ البرنامج الغربي للقضاء على تاريخ أعظم امبراطورية عرفها التاريخ ، لكن الأمة التركية ظلت محافظة على عقيدتها الإسلامية رغم منع قيام قوى سياسية اسلامية بالوصول الى الحكم ، في السنوات العشرة الأخيرة تمكن حزب أردوغان من الإفلات من القبضة الحديدية للعلمانية ، وبسبب من نظافة أيديهم وإخلاصهم على النقيض من القوميين والعلمانيين السابقين فقد حماهم تأييد الشعب من الإقصاء لحد الآن .
3 – التجربة اليابانية : يلاحظ أن الأمة اليابانية نهضت مرتين الأولى في القرن التاسع عشر وكانت على شكل عسكري امبريالي حيث هزمت الروس ، وسيطرت على الصين وبقدار ثمانية أضعاف عدد سكانها .
والثانية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية استطاعت أن تنهض من جديد بالقوة الإقتصادية وليس العسكرية . صحيح أن الأمة اليابانية استسلمت عسكريا ، لكنها لم تتحول الى أمة مهزومة فاقدة لروحها وحضارتها ، فقد تمكنت من إيجاد موطئ قدم بين الدول المتقدمة عن طريق تعويض خسارة التكافؤ العسكري بالتركيز على الإقتصادي .
نستخلص من هذه التجارب الثلاثة ، ان الأمم في صراع دائم لأنها في سباق على التفوق والسيطرة ، لكن الأمم التي تبقى حتى النهاية هي التي تتمسك بخصوصيتها الثقافية ، وأما التي تتخلى عن عناصر تميزها الحضاري ، وتلتحق بهوية المنتصرين ، تضمحل وتتلاشى .
إذن إسقاطا على مشروعنا النهضوي فإن سمتنا المميزة حضاريا هي السمة الإسلامية ، وهي مرتبطة بنا تكوينيا ، بمعنى أنه لم يكن لنا في أية فترة تاريخية وجود بين الأمم ولا تأثير على الحضارة الإنسانية المشتركة إلا عندما كانت قوميتنا العربية روحها إسلامية ، ومنهجها الشريعة الإسلامية ، لكنها وطوال تاريخها قبل ذلك كانت هامشية ولم تشكل في يوم من الأيام دولة نافست الأقوياء أو حتى تصدت للغزاة الطامعين ، بل ظل الإغريق والفرس والرومان والأحباش يتنازعون السيطرة عليها ، ويتقاسمون خيراتها .
فهلا قرأنا السير والعبر ، وأدركنا كيف استثمرت الأمم عناصر تميزها فنهضت من سقطتها … وتعلمنا من الأستاذ العارف … التاريخ .
– للإطلاع على المزيد من انتاج الكاتب يرجى الدخول على صفحته على الفيس بوك : صفحة الدكتور هاشم غرايبه

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى