انتهت اللعبة / محمد العداربة

انتهت اللعبة
الظلمة تعمّ المكان في ساعة متأخرة من الليل، الستائر مُسدلة، يرمي بجسده النحيل على الكنبة الجلدية، يرتدي بيجامة بلون رمادي مخطّطة، ويضع نظارات سميكة بإطار أسود ثخين. نحيل الجسد متوسط القامة، أبيض البشرة، بدت بعض التجاعيد في جبهته وخديه ومقدمة رأسه التي خلت من الشعر، حليق الشنب، هزيل البدن تجاوز الستين ببضع انتكاسات. عميق الفكرة قوي الشكيمة، تبدو الحكمة في تقاسيم وجهه، ألا أن الفجيعة أكثر وضوحًا.
يجلس في الصالة الخارجية في شقته في الدور السادس في إحدى ضواحي نيويورك الهادئة، وبحرص شديد يشغل جهاز التلفاز دون أن يُنير الصالة أو يُحدث أي جلبة، إن الذي في داخله بركان غضب وثورة حزن تفطر قلبه. لا يحب أن يراه أبناؤه وزوجته في ضعف لأي سبب فهو عراقي… وهكذاالعراقيين. يريد أن يبكي دجلة والفرات بهدوء، يريد أن ينتحب قهرًا على نخيل بغداد… ولكن على انفراد. محمد الدوري صاحب الصوت الأجش القوي، مندوب العراق في الأمم المتحدة عام 2003…. هاهو الآن ممحوق التفكير، تخنقه العبرات وعاجز عن التعبير، ويستشعر هوانه على الناس. تجاوزت الساعة الرابعة فجرًا ولا سبيل للنوم ولا الراحة فأخبار الوطن التي تحتل الفضائيات ، أشدّ حلكة من ليل نيويورك هذا، فلا نامت ولا هدأت عيناه، ويبدو لا سبيل لذلك مهما حاول، أيضًا. يتمنى لو أن ما شاهده كابوس مقيت …سيستيقظ منه قريبًا.
ينهض بعد أن شاهد بعينيه أن بغداد مُحتلة ويحدّث نفسه: “لا حاجة للدبلوماسية في نيويورك، لا تحتاج بغداد لربطات العنق والعبارات المُنمّقة، بل تحتاج سواعد وبصيرة قوية لتنهض بعد هذا السقوط المُشين”.
يذهب إلى غرفة نومه ليرى زوجته وقد وضعت رأسها على الوسادة التي بللتها الدموع، هي الأخرى آثرت البكاء على انفراد. جلس بجانبها على حافة السرير، وضع يده المرتعشة على رأسها ويمسد شعرها الأسود، ليحدّثها بصوت مخنوق: “يااابه…. لا تجزعي ولا تبتئسي حبيبتي، العراق ما ينخاف عليه، مثل نهره ونخيله وشعبه، عراقنا باق وهؤلاء مارقون، سيلفظهم العراق كما لفظ هولاكو والبريطانين وكل الغزاة، لا تحزني حبيبتي….” ولكنّه لم يكمل عبارته بل انفجر هو الآخر بالبكاء فاحتضنته وراحا يبكيان. في قرارة نفسه يقول: “ثورٌ سقط ومن حوله المُدى مسنونة …مسمومة”.
ظلّ طوال تلك الليلة محدّقًا في سقف غرفته يتخيل خارطة العراق ويدعو الله أن يظلّ العراق عراقًا. لم يغمض له جفن عشية الإطاحة “بالتمثال” في ميدان الفردوس…..ما أوحش تلك الليلة وأطولها فكأنّها عمر كامل. وأخيرًا كنس الفجر عتمة الليل، فارتدى بدلته السوداء فوق قميصه الأسود والحذاء الأسود وربطة عنق سوداء في أسود يوم مرّ في حياته، يهاتف السائق ويبلغه أن يحضر بأقصى سرعة مُمكنة. لم ينتظر وصول السائق بل نزل إلى المرآب وانتظر قدومه. يصل السائق فيدلف الدوري إلى المقعد الخلفي يحمل حقيبة جلدية، ويضع نظارات سوداء ليحجب شيئًا من عواطفه عن “الدول” في المجلس. دار في خلده بعض الصور من الماضي في مجلس الأمن عندما نعت بوش بالكاذب ودافع عن العراق ببسالة . يقول في نفسه: “لكن جيش العراق كان من ورق، لماذا لم تصمد بغداد، ولم تقاوم، أين “الحرس” و”الفدائيين” كيف سقطت دون ثمن؟”.
يصل إلى ذلك البناء الضخم بشكله المضلّع وزواياه الحادة التي تؤذي العين دون أي ذوق في البناء كأنه صندوق “بانادورا” الذي حوى كلّ شرور الأرض، تصطف أعلام الدول في مدخل البناء. يمشي بانكسار وشعور بالظلم والعجز كبيرين حتى يرى علم العراق فيقف أمامه لبرهة متمعنًا ألوانه فلم يرى سوى اللون الأحمر من العلم، وعبارة الله أكبر التي تتوسطه. في عينيه لم ير سوى علمي فلسطين والعراق متجاورين متعاضدين وتلاشت بقية الأعلام. يتمتم بصمت عميق: “بالنهاية لا يتمّ إلا ما تريده أمريكا( طاح حظها)، حتى هذه الحرب شُنّت بمعارضة كبيرة من أصحاب هذه الأعلام المغلوبة على أمرها”. يصل إلى مكتبه فيلملم مُتعلقاته الشخصية في حقيبته، يمدّ يده ليتناول ذلك العلم الصغير الموجود على الزاوية اليمنى للمكتب، يمسكه بيده ويُقبّله ويهم في وضعه في الحقيبة، ثم يَعْدل عن ذلك ويبقيه في يده فلا يريد أن يقبع العراق في ظلمة الحقيبة، فيؤثر إبقاءه في النور.
أغلق المكتب خلفه وترك المفتاح فيه، توجه إلى قاعة الاجتماعات حيث تنعقد جلسة الآن، بخطىً مرجوجة يمشي كأنه يمشي على الحبال أو في حقل ألغام، ويدخل من الباب الكبير للقاعة وينظر إلى مكانه في المجلس وكرسيه الفارغ، وينظر في عيون الدول….لم يجد أخوّة ولا صداقة ولا جوار، ولم يجد إجابة غير أنها “مؤامرة” وبنودها وأدواتها ولاعبيها “شيفرة”….لكن الأجيال القادمة ستفك رموزها. ينسحب بقراره الشخصي من تمثيل العراق. لم تستطع أن تحجب تلك النظارة السوداء دمعه لغزارته، فبدى هذه المرة ضعيفًا مقهورًا وسقط كما سقط تمثال الفردوس في الانتحاب ودموع مالحة رآها العالم بأسره تنساب على خدّيه بكل تفاصيل قهر وغلبة الرجال.
خارج المجلس تجمّع الصحفيون المُتعطّشون لرؤية أول من اعترف بالهزيمة بشكل رسمي، ويسأله أحدُهم سؤال الشامت: “إن نيويورك ترحب باقامتك فيها كأي عراقي، ما تعليقك؟”.
فقال: “لن أمكث في دولة تغزو وتقتل وتحتل بلدي”. يرفع بيده النظارة السوداء عن عينيه وبمنديل يمسح دموعه فما عاد يجدي إخفاؤها، ينسحب من الحديث ويدير ظهره للصحفيين…. ونيويورك، ليقول: “اللعبة انتهت، Game is over”.

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى