يا قلبي لا تتعب قلبك/ ميس داغر

يا قلبي لا تتعب قلبك

في الوقت الذي كان الشاعرُ يتسيّدُ منبرَ الصالة استعداداً لفتنة الجمهور بقصيدته الجديدة، كانت مُعجباته يصطففن قبالته بِوَلَه، وغاية مُناهنّ أن لا يفهمن شيئاً مما يقول. يتحضّرن بفناء المتصوّفة للتوحّد مع شِعره المُبهم، مقتنعاتٍ بأنّ أشد النصوص بلاغةً، أشدّها استغلاقاً على أفهام القرّاء. ما بالك إن رافق الاستغلاقَ غيابُ الوزن والموسيقى!.. (وهذا ما يتعشّمنهُ الآن على أبواب القصيدة).. لَعَمرُك، إنّ هذه المرافقة إن حدثت، فهي، ويا ويح قلوبهنّ، غُرّة تاج الإبداع.
هنّ ذلك الطراز الرفيع من المثقفات، اللواتي لا تطيب لهنّ القهوة صباحاً إلا بحلّ الكلمات المتقاطعة في الصحف المحلية كافة، ولا يهنأ لهنّ جفنٌ مساءً إلا بعد الاطمئنان على أخبار مشاهير الثقافة. وبين الفينة والأخرى، يخضن سباقاً فيما بينهنّ حول فهم أي نصّ أدبي جديد مُبهَم، بحيثُ أنّ التي تفهم النصّ تكون هي الخاسرة.
استهلّ الشاعرُ قصيدته بما فصم به شخصية اللغة وأدخلها في دوّامةٍ من الاكتئاب. والمعجبات في هذه الأثناء يرمقنه بأجفانٍ تتقوّس غبطة، إلى درجة أنّ أي مُراقِبة لهنّ من إناث الكائنات الأخرى –القطط على سبيل المثال- كانت لتعتقد وهي تراقب غبطتهنّ بوجود قانونٍ طبيعيٍ يقضي بانجذاب أنثى الإنسان إلى الذكر الذي لا تفهم ما يقول! فتبتسم القطة المُراقِبة لهذه الطرافة البشرية المؤنِسة. خصوصاً وهي تتابع الشاعر يستمتعُ بممارسة طقسه الإغوائيّ في أن يزيد معجباته إبهاماً على إبهام.
توغّل الشاعرُ في قصيدته المعصومة عن الفهم، وتوغّلت المعجباتُ في فضاءٍ مُتلألىءٍ من التيه. إنه التيه المعجون بجماليات الفنّ الأدبي. ولا يبحثنّ أحدٌ في القواميس عمّا تعنيه هذه الجملة بالذات.
كان توغّل الطرفين في طريقه نحو انفجارٍ ابداعيٍ في قوة انفتاق النجوم، لولا الانعطافة المريرة التي قام بها الشاعرُ في قصيدته. لقد بدأ قصيدته بعالمٍ مُغرقٍ في الغموض، وعرٍ على الأذن. ثمّ انعطف مباغتةً، ويا لبئسها من انعطافة، إلى موسيقى الوضوح!
ما هذا، لقد بدأن بفهم ما يقول! أيصحّ أن تفهم المُعجباتُ ما يقوله الشاعر! تبادلن النظرات المذعورة بادىء الأمر، والصدمة لا تمهلهنّ وقتاً للبحث عن تفسيرٍ لما يحدث.
أيصحّ أن نفهم؟!
أيصحّ أن نفهم؟!
انغرز السؤال المتكرر في أفئدتهن كانغراز سهامٍ ملطخةٍ رؤوسها بالفلفل الحارّ. فلقد كان هذا الشاعرُ الأمل الوحيد المتبقي لهنّ في عالم قلّة الفهم. ومع تنامي حدسهنّ بأنهنٍ على شفا مرحلةٍ جديدة، هي مرحلة الفهم، لم يستطعن سوى اختيار الوفاء لمبدئهنّ الأصيل. تشاورن فيما بينهنّ، ثمّ انسحبن من الصالة مكسورات الخاطر، وجواب السؤال يسبقهنّ بالعويل: لا لا، إنّ هذا لا يصحّ…

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى