وداع الحبيب جمر الغضا / د . ظاهر محمد الزواهرة

وداع الحبيب جمر الغضا
هناك في حوران اجعلوا قبري لعلّي أشمّ أريجها بعد العناء ، هناك حيث تفارق من تحب،وتعشق من تحب، وتحمل في قلبك من الآلام ما جعل العيون تبكي دما ،وتحبس العبرات فيها حيث تصاب وفي حبه غصة الانتهاء.
أقسم إنّ قلبي مثخنٌ بالجراح،وإنّ الجراح هدايا منَّ بها علي الزمن العجيب، فهل مكتوب علي أيها الزمن أن أفراق من أحبّ؟ وكلما تعلّق قلبي قلبا نظيفا أبيض تأتِ وتقسُ علي بالفراق؟وتبعد الأحباب عني والهوى؟ وأتلوّى في المساء والليل الطويل بلا انتهاء، يا حامل الألم فهل بعد الرحيل ارتياح؟
أبا رياض: لقد خانني قلمي، وخانتني العبارات،وتوقفت بعد الوجع كلمات وكلمات، فماذا أقول؟ وحق الله إن القلب أدمته الجراحات،وقد رحلتَ فماذا بعد الرحيل؟ بئس الهوى والشعر! وقد توهتني في الدرب الاتجاهات، فكيف نمضي والطريق كالليل يمتد من وجعي إلى وجعي، وتكثر في درب الحزين المطبات، ومن حزني على بعد الغوالي تشاطرتني الريح والمحطات، حتى بكيتُ وصار الكل يصرخ بي: أيبكي الرجال؟ وعيني التي أدمتها الابتلاءات.
هنا جئت وعرفت قسمات وجهك الوضاء، وابتسامة لا تفارق شفتيك، وقد قلتَ لي في أول يوم عرفتني فيه: من أين أتيت؟ولم يعرف يومها كيف تُوجعني المسافات، فقال لي: إني أحبتتك ولكن،…وترتكها حتى عرفتُ أن بعدها قدرا جاء بي أبا الطيب إليك؛ لتصبح جليسي ، وكلمات حنين إلى حوران، تحدثني وترسم لي جزءا من الذكريات، ولم أعرف يومها أنَّ الحياة أنت وأنا ستصبح ذكريات!
فمن يكون جليسي إذ رحلتَ؟ ومن يكون أنيسي إذ أصبحتَ بعيدا، وأنا ياعم بتُّ مثل السيف فردا!
أيها الغالي على قلبي: إنّ حجم الألم جعلني أتمنى لو ما عرفتك؟ فكلما عرفتُ حبيا يودعني إلى السفر البعيد، وكأنني اليوم أنظر إلى حوران التي عشقتها ظلاما دامسا، وسهولها جبالا وعرة، ولولا … لن آتي إلى حوران بعد اليوم!
فهل كنتَ تعرف أنك تودّع الركب؟ وهل كنتَ تعرف أن اليوم الذي أراك فيه سيكون آخر يوم للقاء؟ آه ما أساك ياهاذم اللّذات!
كيف تؤجل مجيئ إليك أسبوعين؟ وتطلب مني أن آتي إليك؟ يا الله كم هي الدنيا قاسية!وكم هو الموت أسى! لا يرحم ضعفي ولا قلة حيلتي، ولم يرحم قلبي الضعيف!
وتجمعنا في فرح، وكأنه يوم الوداع الأخير، وتصرّ على أن تأتي سيرين الطفلة التي أبكتني يوم بكيتُ عليك مرات كثيرات، تقول يا أبي أين جدي؟ فأقول في الجنة، فتقول لم البكاء عليه؟ فأعجز كطفل صغير غلبته الأحزان والآلام، لتزيد سيرين الطفلة وجعي من جديد: بابا: نعم، ما عاد لي جد! وأنا ما عاد لي أبٌ يا ابنتي!
أصبحتُ صغيرا، وتذكرتُ أبي الذي رحل وأنا بعمر سيرين، والناس يصرخون على فراقه، وأنا أبكي ولا أعرف حقيقة الموت والرحيل!
آه أيها الموت ما أساك! لم تدع لي زهرة إلا قطفتها قبل الأوان، وتريد مني أن أكون جبلا على الحادثات؟ وأنت تعرف أن قلبي كطير القطاة يبكي كلما هاجت الذكرى وصورة المحبين.
آه إنه الموت ما أصعبك! وأنت تفرق بيننا، وتسلب حبنا، وتجعل عيوننا تذرف دمعنا بمرارة كأس الحنظل.
هنا كنا، نجلس معا، وهنا كنا نشرب قهوة الصباح، وقهوة الصباح معه بنكهة غريبة، عرفت سرها بعد حين، فحين تكون بريئا طيب القلب حنونا ستعرفون معنى ما أقول، وستعرفونكم هي محبة الناس ذهبا خالصا برحمة رب العالمين، يا ملائكتي إني أحبّ فلانا فأحبوه، وينادون أهل الأرض: إنّ الله يحبّ فلانا فاحبوه، وإلا كيف أحبك الصغار الصغار؟ وصرخوا بصوت يهز الجبال، وهم يودّعون الحبّ والعطف، وسر ابتسامة لم تفارقهم وهم يلعبون، حيث كنتَ تنادي: تعال تعال.
ليتني ما عرفتك حيّا؛ لأن قلبي الآن يعتصر ألما، وأحسّ بسكين تفتُّ في حشاي، كلما سمعتُتك عبر الهاتف إذا اتصلت بك يوماترد الجواب: يا هلا، أقسم إنّك ترحب بي يا هلا، وقلتُ بنفسي إنّي وجدتُ أبا حين فقدتُ أبا، وأشتاق كلّ شهر لحوران؛ لأنك من حوران أثر.
يا سيدي: لا أعرف ماذا كنتَ لي وأنا المسافرمن هناك! وقد سألتني يوم أتيتُ إليك: ما الذي جاء بك كل هذه المسافات؟ من دلّ عليّ؟ وأنا أقول القدر، وها هو القدر نفسه الذي جاء بي أخذك بعيدا، وبقيتُ وحيدا، حتى عرفتُ اليوم أني قد فقدتُ أبا.
انظر إليّ سترى في ناظري ألف ألف حزن، وفي قلبي مثلها ويزيد من الهموم، فقلبي مطار لسهام الألم، وكل المصائب قد تهون عليّ إلا تراب الوطن وفقد الحبيب، فما لي سوى الصبر على الحادثات، وأي الحوادث مثل فقد المحبين حين تعدّ الطيبين، ويرحلون دون وداع ، ويبقى لله حكمة فوق الجميع.
أبا رياض: أحقا لن نراك! أحقا لن تزورني في بيتي هناك! أحقا توقف الركبُ ترحلتَ! أحقا تركت الحصان وحيدا! قل لي بحق السماء: كيف سأمحو من خيالي طيف الشهور، وذكرى السنين؟ وكيف سآتي إلى هنا دون أن تكون؟ فهل سأقوى على رد الخيال خيالا، ومسح الدموع ونبض الأنين؟
قل بري السماء: كيف سأنسى ملامح وجه بشوش محب لطيف؟ كلما رأيتُ اليمان تذكرتُ متألما صوتا حنونا يقول له: يسعد هالوجه، قم يا اليمان وامسح دموعي في هذه الليلة جمرا حريقا، وجدّك الذي يفرح بنا كأننا نأتي من فوق السماء طيور الجنان قد غيّب الموت وجهه، ودائما هو الموت يا بني يغيّب عنّا المحبينا، ويزيد أوجاعنا عبر السنين أنينا، ويأخذ كل من نحبّ حينا فحينا، قم يا اليمان فأنت الوحيد الذي أراك عصي الدمع شيمتك الصبر، فأنت لم تر الوجه الحنون كما رأيته، ولم تسمع القول الكريم كما سمعته، ولم تركب معه أو تمشي، ولم تجالسه ليلة واحدة مثلي، أما أنا يا بني فقد عذّبني القدر كثيرا، ومرّغ أنفي بالألم، ولكنني صبرت، وصبور أنت يا جملُ، كلما مرّ حزن جاء حزن، وكلما كفّ دمعي سال دمعي، أنا حين آتي هنا أقضي جلّ وقتي معه، فيسرد لي قصصا وحكايات، وأسرد لها مثلها، فنكتشف أنّا شبيهان في درب الألم والتضحية، والعمل والقيم، وضيق الزمان وفقد الحنان من أبي وأبيه، وكلانا أمّه جاهدت، وتعبت، ولوّحتها الشمس فصارت سمرتها بطولة، لعلّها تكون دروسا للأمهات ، قم يا اليمان وقل لي: من سيقول لك الآن يسعد الوجه ، ووجهك حب وحنان؟
وأم اليمان، ماذا أقول لها؟ وأنا أعرف مرارة الفقد وظلم النوى، ومصيبة الموت وظلم الفراق، كلما دخلت عليها تحدّث صاحب القلب الحنون، وتبكي عليه عبر المسافات، وهو الذي يحبّ ضحكتها، ويرى في سيرين صورتها، فهل تلام إذا ما بكيتْ عليه مثلي ليلا طويلا؟
وهل أقول لها كفى عن الدمع وكفى للبكاء؟ لا، لن أقول لها؛ لأني أنا الرجل الذي يراد له أن يكون جبلا صامدا ها هو الآن يذرف دمعا وخلق الله ناموا، وما نسيتُ يا غالية أن أول يوم جمعنا القدر هنا أنك أغلى ما لديه، وأنا من هنا أقول لك ستكونين حبيبة قلبي مثلما أنت حبيبته، وأنت عيوني التي أرى، وقلبي الذي أحب وتجرّع الويل وأنكوى، وأسأل الله في هذا الليل أن يلهمك الصبر على الفراق، فليت البكاء يعيد حبيبا لكنتُ أول من بكى، وليت الصراخ يعيد الحبيب لصرختُ مثل النساء فوق المرتقى، ولكن هيهات هيهات فإن الله كتب الموت على كل نفس وخير الناس من اتقى.
أتريدون من أن ألبس ثوبا جديدا كنتُ أريد أن آتي به قبل أن يموت الحبيب؟ وتريدون مني أجهز نفسي كمحتفل يهمه كلام البشر، وأنا صاحب العلم وموطن اللوم؟ أقسمتُ وأنا أعرف أن قسمي خطأ كبير قبل أن تنتهي أيام العزاء لن أبدل ثوبا بثوب! وليقل عني من يقول وما يقول، فمنذ خلقتُ على وجه البسيطة ما همني قول البشر، ولا أثر الكلام، وحق السماء وخالقها بلا عمد لولا الأحبة مثلكم ما عدتُ لحوران ما دمتُ على قيد الحياة، فإني سئمتُ المداخل فيها والمخارج، وحقول القمح وحتى السهول، وزيتونها الذي اصفرّ، وصوت المدافع لها من قريب، ولكنكم لي إخوة، وحب الأخوة يحتم علي سأبقى أحنّ لحوران حتى أموت!
أترانا أسلمناك لحفرة الأرض وحدك، وسرنا بعيدا أو مضينا؟ فمن نحن؟ لا نملك نفعا فننفعك، ولا نملك نفسا واحدا نمنحك، ولا لقمة عيش واحدة، نحن الضعفاء يا أبي لا نملك إلا الدعاء لرب السماء أن يغفر لنا ويغفر لك، ويرحمنا وويرحمك ، ويرحم والدينا ومن له حق علينا ، ويجمعنا مع الحبيب محمد صلوات ربي وسلامه عليه.
ها قد مضيتَ ونحن في حقيقة الأمر ماضون،وما ودّعتَ ، وهل أطيق وداعا أيها الرجل، وقد أيقنتُ أنّا لاحقان بقيصرَ، ولولا الدموع لهاجني وجعي، وسأزور قبرك والحبيبُ يزار.
فسلام عليك يا من رحلتَ وتركتَ غصة في الحلق ، سلام عليك حين رأيتك أول مرة باسم الوجه وطيب القلب، وكل الحنان والعطف بين ضلوع تحب السلام ، وسلام عليك يوم حملناك على الأكتاف لنرى الدنيا محض سراب، وكل السنسن ضاعتْ كحلم في لحظة نوم، وسلام عليك حين تقوم لرب العالمين ، وهو الرحيم بنا ، ويغفر لنا الخطايا والذنوب.
• بقلم حزين د. ظاهر الزواهرة – الجامعة الهاشمية

*الرمثا – الطرة ، بيت أخي علاء الدرابسة، 19/3/2018م ، الساعة : 1:35 ليلا.
د . ظاهر محمد الزواهرة – الجامعة الهاشمية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى