فليسامحني أصحاب الألبسة المشروطة / د . ظاهر محمد الزواهرة

فليسامحني أصحاب الألبسة المشروطة
حين كنا صغارا في سنين اللاحساب كانت الدنيا مِـرقبا ، وكان الجميع مسؤولا عنا ، وكانت أمي توقفني عند حافة الباب تحدّق فيّ وفي ثيابي ، وتمعن النظر ، وتسمح لي بعدها أن أذهبَ إلى مدرستي ، تماما كأنك تمر تحت جهاز تفتيش في مطارات لندن ، وكنا حين ندخل فناء المدرسة ننظر لبعضنا كأننا جسد واحد ، قبل أن ينظر إلينا معلمونا ، يهمني صورة جاري ، وابن قريتي ، والآتي إلى مدرستي .
نعم ، كنا هكذا ، ومع العوز كنا نتمسك بصورتنا المشرقة ، التي تعني من أنت ؟ لم تكن مصانع الألبسة متاحة لنا ، ولا دور الأزياء مرتعنا ، بل كانت جلسات الآباء والأجداد مدرسة أخرى ، تنعقد ليلا في سمر هادف على فنجان قهوة بالطيب والحبّ والصفاء ، فكانت حياتنا بين المدراس ، مدرسة صباحية ننهل منها العلم ، ونتعلم فيها القراءة والكتابة ، ومدرسة في البيت ، ومدرسة في المسجد ، ومدرسة في الحيّ ؛ لذا علمنا المعلمون والفقهاء ، والأهل والأجداد .
كنا صغارا وحين كبرنا إذا تعرض قميص أحدنا إلى خرق أو تمزيق أو نتوش ، أو نسل خيط تأخذه الأمهات ليصبح مستهلكا في العمل ، ولا يجوز لك أن تذهب به إلى المدرسة أو المسجد أو الحيّ ، حتى كان بعضنا يخجل منه وقت العمل .
واليوم بعد مرور السنوات العجاف ، وأصبح المربون كثرا ، صرنا نشاهد ألبسة تؤلم أكثر مما تبهج ، وتؤذي أكثر مما تظن ، وتقتل أكثر مما تفرح ، فيقول أحدهم عن كاتب هذه الكلمات : رجعي تقليدي ، ويقول آخر : ذهب زمنه فأراد أن يبقي الناس فيه ، وأقول لست متجاهلا دورة السنين ، ولا الشكل ولا اللون ، لكنني أقول بعيدا عن كل تحيز أو تعصب : ما الفائدة من سروال مقطب الحاجبين ؟ أو أو ممزق من كل اتجاه ؟ ممزق يكشف ركبة لابسه ؟ ما الفائدة من كل هذا التحضر في نظر البعض ؟ هل تمزق السروال أو القميص يعني أنك من عالم علوي متحضر متميز ؟ أن تكشف ما لا يجوز أن تكشفه للآخرين ؟ أن تكون جريئا في مواطن لا تعد حرية ولا جرأة ، ولا قوة شخصية ؟ إنما وجدنا غيرنا لها لابسين !
أن تنتشر هذه النماذج من الألبسة بشكل يجعها ظاهرة تستوجب وقفة أو وقفات ، فليسامحني أصحاب الألبسة المخزوقة والممزوقة – والمشروطة – فأنا لا أتحدث عن لابسها بل عن لبس من نسيج وألوان ، مع يقيني أن كثيرا ممن يلبسها لا يلقي لها بالا ، وأن كثيرا على أدب وعلم لا ينطبق عليهم : تسمع بالعيدي خير من أن تراه !

د. ظاهر الزواهرة – الجامعة الهاشمية
23 / 10 / 2016م ، الأحد .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى