سنة ثقيلة
سناء جبر
مع اقتراب هذه السنة إلى النهايات التي ألقت بظلالها وسوادها على العالم برمّته : شرقه وغربه ، عربيّه وغربيّه، أكتب هذه الكلمات وقلبي يفيض أسًى وحزنًا ، فرحا وشكرًا معًا، لست وحدي فأنا اجزم أن الجميع يتنفس الصعداء ويتمنى لو لم تكن. وتسألني : كيف للمتناقضات أن تجتمع ؟
نعم، سنتنا القاسية بوجوهها المختلفة وأبعادها التي ما خفيت على أحد كبيرًا كان أم صغيرًا. هي للمتناقضات عنوان؛ فيها الضّيق والبَسط ، فيها الغنى والفقر ، فيها التعليم واللاتعليم ، فيها الخير والشر ، المعلَن والمخفيّ ، المكشوف والمقنّع، الصّديق والعدوّ، الحقيقيّ والمزيّف، النجاحات والانكسارات، إلى غير ذلك مما يخطر ببالك من صور حياتية وانعكاسات واكتشافات خبرتها ضمن محيط حياتك ومجتمعك. وهي صور نجدها كل يوم ولا تخصّ عامنا فحسب. لكن الانعطافة هذا العام تمثلت بازدياد النسب عن ما سبقها من أعوام وتعاظم حساسيّتنا تجاه التجارب والمواقف التي نعيشها عيانًا أو نلحظها أو نسمع عنها، لا يهم الطريقة إنما المهم هو الخبرة المكتسبة نتيجة تلك التجربة. وقد تكون العلامة الفارقة لهذه السنة في ارتقائنا درجة في سلم الكشف عن دواخل النفوس،وتمييز الصالح من الفاسد منها، لست أدعي القدرة ولا المهارة، لكن لو أفردنا مساحة صغيرة للتفكير في الأمر، لقطعنا بصحة الأمر، بالتأكيد بتفعيل العقل لا القلب والوجدان.
فكلّ مقنع مدّعٍ لصداقتك كشف قناعه وكشّر عن أنيابه. وذلك معميّ القلب يدور حول نفسه يتعقّب السبيل ويحاول أن يفهم ما يحصل ويسائل النفس والقلب: أين أخطات ؟ يضرب الكفّ بالكفّ ويندب حظه قابعًا في الزاوية، ولسان حاله يقول : راهنت عليه ليكون سندي وعضدي ، لكنّه مال وسقط ، لم يكن حقيقة ، كان سرابًا خدّاعا…غامت الدنيا في عينيه واسودّت الدنيا في وجهه… وكانت الحيرة عنوان طريقه، والهذيان لازمه حتى فقد الشعور بالأمن من حوله ، طعنة الغدر في الظهر تلك أصابته في مقتل.
إذن نحن حتى الآن أمام صنفين : مقنّع كشف قناعه، ومصدوم واجه عقوبة الظنّ الحسن والصدق الذي آمن به يومًا. نحاكي القلب والروح والعقل، نهذي بالأمنيات:هل بمقدورنا في قادم الأيام أن نردّ الأمور إلى نصابها ؟ كيف لهذا الشخص أن يستعيد ثقته بنفسه وبقيمه وبعقله الذي آمن بالحبّ والصدق والعدل والقيم الإنسانية التي لا حصر لها ولا انتهاء… فكان لموقف ما أن يبطل هذه الاعتقادات ودحضها بسوء تصرفه وببشاعة فعله.
بالمقابل ، ولنكن منصفين ، هناك من حافظ قدر الإمكان على ما تبقى من أصله وقيمه وأخلاقياته وإنسانيته ، فبقي صورة بهية مشرقة ولا أجمل منها للإنسان الإنسان ، لا مدعيّ الإنسانية الذي يتهيأ لانتهاز الفرص للقنص واكتناز الفوائد وإثارة الفوضى والبلبلة ونشر الإشاعات وأدوات التخريب والتّدمير للنفس الإنسانية إن أذاه يعدّ أشد قساوة وبشاعة وصعوبة من الأذى الماديّ، ونحن هنا لا نقلل من قيمة الثاني ، لكن أن تبني نفسا وتهذبها وتبعث فيها القيم والأخلاق والثقة لهو أمر أشد صعوبة من بناء عمارة أو بنيان. وعليه، فزعزعة النفس وإرهاقها أشد وقعًا وجرحها أصعب في الاندمال والعودة مجددا إلى حياته الأولى. ويلخص مصيبته في أنه احترم من لا يستحق، وكيف له أن يعرف إلا بعد أن تلدغه لسعات قاتلة منه.
هي سنة ألقت على كواهلنا أثقل المهامّ، وعلّمت الكثير منا لا أن يكون آدميًّا فحسب بل أن يكون إنسانًا مفوضًا من الله لعمارة الأرض والبشرية والنفوس الإنسانية، إنسانًا من حيث هو إنسان، لا بالشكل والرسم بل بالفعل والتصرفات. كيف يداوي جرح أخيه ، كيف يربت على كتف المحتاج ويعطيه من أفضل ما يملك لا الفائض عن حاجته ، أن يعرف تمام المعرفة أننا سواء، والمرض الذي يصيبني ليس بعيدًا عنه وهو عُرضة لنوبات الدهر وخيانات الأصدقاء.
علمتنا هذه السنة أن نكون أكثر رأفة بأصحاب القلوب الهشة الضعيفة غزيرة الدمعة تذرفها لسبب تراه سخيفًا غير مستحقّ لأدنى اعتبار. لكن تذكر تلك قصّته وليست قصتك حادثته ومصيبته هو وليست حادثتك ولا مصيبتك. فإياك أن تقلل من قيمتها في قلبه فأنت لا تدري ما يحدث داخل تلك الحجرات، تجد ذكريات تربعت هناك واستقرت وتريد منه أن يخلع جذورها فجأة ، كيف يكون الأمر بيده وقد عاش عمرًا بطوله محبا قابضا على الجمر كي لا يخسره ؟ هي قصته وحبه والآن هي خيبته، وله أن يعيش حزنه عليها طولا وعرضا، ونكتفي بأن نكون حوله حامين محبّين، وإياك والنصائح الجوفاء التي لا تزيد الأمر إلا صعوبة وأذى، فلكل منا حكايته التي يضج بها القلب والعقل، كما لكل حادثة عواقبها ولكل عهد مميزاته، ولكل منا أسلوبه وقدرته في التعاطي مع ما ينهك وجدانه.