خواطر ليلة ماطرة
منذ ما يقرب العام، والعالم كله انقلب رأسا على عقب، لا على المستوى الوطني والإقليمي فحسب، بل أضف إلى ذلك المستوى العالمي، دون استثناء، كان لظهور الفيروس المسبب لكورونا الأثر الفاعل في تغيير حياة الناس صغارا وكبارا ، إناثا وذكورا ، شيبا وشبانا.
وإن قلنا: إن هذه الجائحة كشفت القناع عن كثير من العلاقات الزائفة المبنية على الخديعة والكذب فنحن لا نبالغ، وإن قلنا: إن لهذه الجائحة دورًا في كشف المستور من حياة الناس باختلاف أوضاعهم الاجتماعية فنحن لا نبالغ كذلك، كان الجميع مغطى بقشرة رقيقة شفافة أشبه ما تكون بقشرة البصلة… وكان لهبذة الرياح تلك الدور الفاعل في طيرانها لتظهر وتجلو ما استتر تحتها أو في باطنها الرقيق جدا، لكنه نفث رائحة كريهة يا ليتها أشبه برائحة البصل… فقد كانت للعفونة أساسًا، وعنوانًا.
جائحة كورونا علمت الجميع أن الصديق الحق هو من يحب لك ما يحب لنفسه وبناء على هذه القاعدة فهم قلة إن لم يكونوا ندرة، والبقية ليسوا إلا تماثيل ومهرجين تشبعوا بالكذب والانتهازية، فلم تعد تميز كذبهم من صدقهم لشدة ما أتقنوه.
كورونا فعلت فعلتها في الجانب الاقتصادي وأغلقت الكثير من القطاعات، وأغلقت أبواب رزق عدد كبير من الأشخاص ، كورونا أجبرت الجميع على التعامل مع الحياة بشكل مختلف. والاختلاف، لا يشترط أن يكون فيه التميز مجالا واضحا ، فالتعليم متمازج مدمج، وهم غير مدربين لكنهم في بعض الدول، أصحاب الفزعة ويلبسون طرابيش ويرتدون قبعات ليست على مقاس رؤوسهم ، ويدّعون ما لا يستطيعون. وبالمقابل هناك دول أخرى تعاملت مع هذا السياق بتخبّط كمن يلعب لعبة الورق دون تجريب أو احتراف، فهو جديد عليها لا يفقه فيها حتى الأبجديات الأولى التي تخرجه من دائرة الأمية … في قطاع التجارة والصناعة ، كل يغني على ليلاه ويخاف على رصيده من الثبات أو النقصان، يريدون الزيادة فحسب، لا بل المضاعفة ، فوقف أصحاب العمل ضد رفقائهم في الدرب وسبب النجاح عندهم، وقلصوا أعداد العاملين ومن تبقى، فعليه أن يرضى بأن يخصم من راتبه بنسبة معينة لا تكاد تسد رمقه وأهل بيته، حتى الكمامات صارت مجالًا رحبًا للسوق السوداء يستغلون فيها خوف الناس وهلعهم فضاعفوا الأسعار. كم من صاحب خبرة أغلق باب العمل في وجهه وسدت الطرق أمامه وأقدم على الانتحار لأنه لم يعد ما يجد ما يسدّ قوت يومه؟ كم من أم عاملة تساند زوجها في طريق الحياة الصعب، همّشت وتركت عملها ، وكان لتركها العمل سبب بطريقة أو بأخرى في إفساد بيت الزوجية؛ فقد تضاعفت المسؤوليات على الزوج ولم يعد وحده قادرًا على القيام بمسؤولياته تجاه أطفاله وزوجته فكانت النتيجة المتوقعة: اضطراب وخوف من المستقبل مما انعكس في تعامله مع أهل بيته عصبية وصراخًا وقهرًا ، فالرجل ينكسر أمام أطفاله وقلة الحيلة تطارده وضيق ذات اليد يلسعه. كم عدد الأحباب الذين خسرناهم فرحلوا دون وداعٍ بسبب هذا المرض الشرس! وهبتنا الجائحة كمًّا هائلًا من الدروس والعبر لم نكن لنتعلمه بغير هذه الخسارات والانكسارات، علمتنا أن للابتعاد فوائد عظمى، أن اترك بينك وبين من تحب مسافة لتراه بعين عقلك لا بعين قلبك، لا تتوقع من أحد أكثر مما ينبغي ، هو لنفسه ولمن أحب… وأنت يا من ظننته محبًا فعليك الرحمة، وينقلب عليك حسن الظن ادعاءً زائفا وأخيلة لا اصل لها من الصحة. أدعو لك بالسلامة من خيبة أمل وبكاء طويل ودمع ساخن حارّ تذرفه متدفّقً في ليلة شتوية ماطرة تذكرك بكل التفاصيل – إن كنت نسيت أو تناسيت – أدق المواقف يوم تأملت به خيرًا ووضعت ثقتك في من لا يستحق. قالوا وصدقوا، في البعد حكمة ، يجعلك قادرا على استجلاء الأشخاص والمواقف بعقلانيّة أكثر وهدوء أكبر فتصل إلى قناعتك باتزان مضاعف بعيدًا عن فوضى المشاعر والوجدانيّات. تقدم لنفسك الأدلة واحدًا تلو الآخر،على صدق فرضيتك فلا تحتاج إلى تكذيب نفسك وخداعها.
يا الله ، كم هي الحياة قاسية صعبة ، كم همم عدد الشباب المفعم بالحياة والطموح كان يقدم طلبات التوظيف يكلله الأمل بدخول معترك الحياة فكان لكورونا أن تثبت نجاعتها في قتل كل طموح وأمل في التوظيف، وهي بذلك توجه رسالة إلى الشباب مفادها: ناموا ولا تفيقوا، فقد ابتلعتكم إلى أجل غير مُسمّى ، فلبثوا وألقوا عن كواهلهم كل أمل وطموح وشغف، ودب اليأس في أرواحهم وباتوا ضعاف النفوس، لا يرجون خيرًا من قريب ولا من بعيد. نلقي اللوم على كورونا أم على من تعامل مع أرباب الأموال والعمل الذين أغلقوا أبوابهم في وجوه المنتفعين وطالبي الحياة ، لا لشيء إلا لخوفهم من عدم الربح كما اعتادوا، هل فكرتم بغيركم ممن يعملون لتحصيل قوت يومهم وإلا فالنوم جوعا هو المصير له ولأطفاله، يتدثرون آلاما ويغطون في حلم شفيف لعلهم يستيقظون على حالهم وقد تغير، وإن لم يستيقظوا فإن الحياة تكون قد رأفت بهم وخلصتهم من هذا المشوار الصعب إنهاؤه وهناك الجبابرة المتسلطون، يحلمون بعُمَرَ يقيم العدل والإنصاف وقد نسوا أن حظهم العاثر قد قضى على كل أمنية بوجود مثيل لعمر أو شبيه به أو يكاد يدانيه.
نلقي اللوم على كورونا، وقلوبنا الجوفاء خلت من كل شخص خلناه حبيبا أو رفيقا للدرب، في المنتصف أفلت منا اليد وغاب إلى حيث اللاعودة ، لم ينظر خلفه ولم يفكر أصلا بمن ترك وراءه.. وكيف هو حالهم عندما أدار ظهره لهم، هل كنا بقسوتهم؟ أقلوبنا صمّاء صلدة؟ أبدًا… بكينا وتمنينا أن يعودوا ونحن واثقون من ضد ذلك. كانوا ينتظرون الفرصة فلما سنحت استغلوها سريعا، وباتوا هم المنتصرين بأنفسهم الفائزين بمقعدهم من الكذب والخيانة وسببوا لنا من الإحباط والخيبة الكثير الكثير، كنا محتاجين إلى جرعات من الأمل أضعافا مضاعفة عوضًا عن اللقاح ضد الفيروس، ما زلنا في طور التّعافي ولا نعرف تماما هل سنشفى أم ستظل الخيبة قابعة في الأوردة والشرايين؟ رأيتهم هناك في الطريق رحلوا دون وداع، أعملوا رماحهم المسمومة في القلب وغادروا، غادروا، صفقوا الأبواب خلفهم فلا أمل بالرجوع. نظرت في الوجوه فلم أعرفها، كانوا مقنعين بأقنعة الزيف والخداع، تعبوا من ارتدائها فآن لهم أن يخلعوها ويظهروا حقيقة الأنانية والانتهازية والكذب. أو أن القناع تمزق ولم يعد مناسبا فكشف عما يستتر وراءه، لست قادرة إلا أن أقول: لا سلاما على من استنزفوا طاقاتنا حتى أهلكونا ، فلا سلمكم الله ولا بتّم بخير، سيقتص الله ، هذا وعد.