آيا صوفيا وحمراءُ الأندلس

آيا صوفيا وحمراءُ الأندلس
د. جودت سرسك

يُبكيكَ أميرُ الشعراءِ وهو يبكي دمشق الحضارة والعروبة، ويجعلُها نِدّاً ورَديفاً للتاريخ ،فيقول حين تعرّضت للقصف الفرنسيِّ ذاتَ عدوانٍ :
وقيلَ معالمُ التاريخِ دُكّتْ وقيلَ أصابها تلَفٌ وحَرْقُ
وكلُّ حضارةٍ في الأرض طالتْ لها من سرحكِ العُلويِّ عِرْقُ
ألستِ دمشقُ للإسلام ظِئراً ومرضِعةُ الأبوّةِ لا تَعِقُ
ويُبكيكَ صاحبُ الحضورِ الشعري، والوجع الإنسانيِّ، أحمدُ شوقي الذي أعاد للعربية عبيرَها ونفْحَها الشجيّ ،وهو يبكي باريسَ الغاشمةَ التي كانت تدكّ دمشق فيما مضى، فيتألمُ لوجعِها ،لأنه يعرفُ قيمةَ حضارتِها وقساوةَ الحرب ،وخطْفَ الأبصارِ، وبشاعةَ ريحِ البارودِ وغبارَ الهدمِ على رؤوس الصِبيةِ، حين تعرّضت لجرائم النازية الألمانية ،إذ يقول:
ولقد أقولُ وأدمعي منهلّةٌ باريس لم يعرفْك مَنْ يَغزوك
إنْ لم يقُوك بكلّ نفسٍ حرةٍ فاللهُ جلّ جلالُه واقيك.
توجعنا أنّاتُ دمشقَ الجنّة، بكلِّ ما فيها من عبقٍ وتاريخٍ وحضارات، ويذكِّرُنا الشاعرُ بوجعِها في بحر البسيط :
آمنتُ بالله واستثنيت جنّته دمشق روحٌ وجنّاتٌ وريحانُ
هيَ جنّةٌ، وبَرَدى نهرُها الذي يَتلقى زائريها كما يتلقّى خازنُ الجنةِ رضوانُ ،أهلَ الخلود والجزاء.
وما بينَ وجعِ دمشقَ وضياعِ الخلافةِ، ونكوصِ الدولة المدنية ،وزمان الوصل في الأندلس ،وقرطبةَ الكبيرِ، أوجاعٌ وحكاياتٌ تَشيبُ لها لِحى الرجال، وتُشعُ عيونُهم لهيبا وحسرةً وندامةً على ما حَلّ بِهم.
جادك الغيثُ إذا الغيثُ هما يا زمان الوصل في الأندلس
لمْ يكُنْ وصلُك إلا حُلُما في الكرى أو خِلسةَ المختَلِسِ.
وداعاً لأندلسِنا التي أيقظتْ أوروبا بعد سباتٍ عميقٍ، وكستْها أبهى الحُلل، ووسّمَتْها النياشين، وأضاءتْ في ساحاتها نورَ المعرفة وعدوى انتشار الرقيّ البشري،وداعاً لِمَنْ رسمَها بريشةِ الفنّانِ الحاذق ،وتَرَكَ إرْثَها في قلوبِنا أشعارا وعماماتٍ وبِرَكاً وبساتينَ وارفةً ،وإنّي أخالُ ابنَ هانيءٍ متنبي الأندلسِ، وابنَ زيدونَ بحتريَّ الغَربِ يتربّعون في بهوِها، يُلقون أشعارَهم كما يُلقي القدّيسُ بَرَكاتِه على مُريدِيه.
وما تزالُ معاهداتُ التواقيع والتنازلِ حاضرة وماثلة في مخيلتنا مذ وقّعَ الملكُ أبو عبدالله مع الملك فرناندو الخامس لتسليم غرناطة وكافة أعمالها للقشتاليين، فدخلوها في الثاني من كانون الثاني من عام 1492 ميلادي ،وبسقوط غرناطة سقَطتْ الأندلسُ، وأُسدِلَ الستارُ عن تاريخِ المسلمين هناك ،وانبرتْ المحاولاتُ العثمانيةُ على يدِ السلطانِ سليمانَ القانوني ،الذي فرض هيبتَه على الامبراطورية الرومانية المقدسة ،وبدأتْ حكايةُ آيا صوفيا أرضِ الحكمة والقداسة من جديد، غيرَ أنَّ الموتَ غيّبَه وانشغل مَنْ بعدَه، ابنُه ووريثُه سليمٌ بفتوحاتِ الشرقِ واستردادِ استراخان وقازان الروسية ،لينتهي الرعبُ الذي كانت مجَريطُ(مدريد) تعيشُه مِنْ احتماليةِ هُجومِ الجيش العثماني عليها لاسترداد الأندلسِ المفقود.
وكما ارتسَمَ التسامحُ في عَهْدِ محمدٍ الفاتحِ مع رعايا الدولةِ التي افْتتَحها بأمرِ اللهِ الذي أمَرَ، لنشرِ دينِه ودَعْوتِه ،فقدْ تمثّلَ بعضُ تسامُحِه في الحفاظِ على صُوَرِ الجداريات في الكنيسةِ آيا صوفيا، حفاظاً على مشاعرِ أتْباعِ عيسى عليه السلام نبيِّهم ونبيِّنا ،وأمُّه مريمَ الصدّيقة التي قرّتْ عينُها وعينُ الدنيا بولادته .
وكذلك ارتسم تسامحُ أهلِ الأندلسِ على أرضِ أسبانيا مع أهلها فلم يُثقلوهم بالضرائب أو الجَبْر على الدين، فاعتنقوا الدينَ الجديدَ حُبّاً وسُمّوا بالمَسالمة ،وسُمِّي أبناؤُهم بالمولّدين ،ومَنْ لمْ يُسْلِم منهم سُمّوا بالمستعرِبين، تَقمّصوا ثقافةَ العربِ وعلومَهم ولسانَهم ونُبلَهم.وكذا الحالُ معَ اليهودِ الذين تحكّموا بمواردِ الدولة الماليةَ وتسلّموا الوزاراتِ ،حتى أنَّ بعضَ وزرائِهم نظَم في القرآنِ موشحاتٍ تُغنّى :
نَقشْتُ في الخطِ سَطراً مِنْ كِتابِ اللهِ مَوزونْ
لنْ تنَالوا البِرَّ حَتّى تُنفِقوا مِمّا تُحبّونْ
يا عائشةُ يا أمَّ عبدِ اللهِ الصّغير، لا عارَ عليكِ، ولا على عبدِ اللهِ الزُغابي المشؤوم، كما سمّتْه عربُ الأندلسِ وعجمُها ،فلا تبكِ على مُلكٍ مُضاع، فقد جفّتْ الدموعُ، وانقضَتْ سُنّة اللهِ في مَنْ فرّط ويفرّط ،فواللهِ إنّ لعنةَ عبدِ الله الصغير إنْ صَحّ ما اتُهمَ به من التفريط وتضييع غرناطة، آخرِ معاقلِ الأندلسِ العظيم ،قد انتقلتْ لخلفاء الأمّةِ مِنْ بَعدِه وغزاهم غبارُ بني صهيون، وأحفادُ فرديناند مِنْ الخامسِ حتى الألف.
هي الأيام يا أمَّ عبدِ الله دُوَلٌ ،مَنْ سَرّه زمنٌ ساءتْه أزمانُ، ولله المشتكى ولأمثالِك الذين يعلمون قيمةَ الفقْدِ بعد البِناء،فبَعد الأندلسِ ضاعَ ما شاء اللهُ أنْ يضيعَ ،مِنَ القدسِ للقاهرةِ إلى دمشقَ.
فهلْ تعيدُ آيا صوفيا لنا الأملَ بالحفاظِ على مابقيَ ولا نريدُ ما فاتْ وضاع ،لأنّ مَنْ فرّط هذه المرّة هُم أبناءُ جلدتِنا ،وليس غزواتُ الممالكِ المسيحيةِ، حولَ إيبيريا ومَجَريط،فلا المساجدُ ولا الكنائسُ آمنةٌ مِن قصفِ أحفادِ فرديناد الغزاة، ولا أذرُعِه التي ألبسوها طوقَ ذُلّهم.
مررتُ بالمسجد المحزون أسأله هل في المصلّى أو المحراب مروانُ
لولا دمشقُ لما كانتْ طليطلةٌ ولا زهتْ ببني العبّاس بغدانُ
سلامٌ على الأندلسِ وشعبها ،ورحماتُ الله على مَنْ عذّبتهم محاكمُ التفتيش، وطبعتْ على ظهورهم بالنارِ والحديد رسمَ الصليب ،وقطّعتْ ذكورةَ رجالِهم الذين تطهّروا على سنّة إبراهيم أبينا جميعا ،مسلمين ومسيحيين ويهود ،وكان دليلُ إدانتِهم أماكنُ الطهارةِ والوضوءِ في بيوتهم ،فذنبهم كما قال قومُ لوط :إنّهم أناسٌ يتطّهرون ويتطيّبون ،ويتَأندَلِسون ،ويتوشّحون ويزْرِبون بالعودِ، والنغَمِ والموشّحات .
وفي المشهد الآخَر، فتْحُ دمشقَ وانقسامُ آراءِ ذوي السيادةِ والكبرياء، صحابةِ محمّد الهادي في كنيسة يوحنّا المعمدان، يومَ أنْ افتَتحوها ،فجعلوا الشرقيّ منها مسجدا على اعتبار أنّ مَنْ دخله كان خالدُ ابنِ الوليد حَرباً لا صُلحا، وجعلوا نصفها الغربيَّ مِن ناحية أبي عبيدةَ الجرّاح كنيسةً، على اعتبارِ ما سادَ مِنْ عُرفِ الحروبِ آنذاك ،فأمّنهم على أموالِهم وأرواحِهم وكنائسهم.فسلامٌ على يوحنّا والوليدِ بنِ عبد الملك وعلى الجامعِ الأمويِّ ما طالَ الدهرُ وانتفضتْ الأرضُ بأحرارِها .
وسلامٌ على عمرَ بن عبد العزيز والي دمشق وخليفتها ،الذي أرسلَ لإمبراطور الرومِ لمّا علِم عنْ أسيرٍ لديه ،أُجبِر على التنصّر تحتَ التعذيب ،فأبرَق له مُقْسِماً بالله أنْ يُرسلَ له جيشاً يكون أوّلُه في روما وآخِرُه في محميّةِ دمشقَ إنْ لم يُخْلِ سبيلَ أسيرِه،فكانَ ما أراده أميرُ المؤمنينَ عمرُ بن عبد العزيز، في دمشقَ العزةِ والكبرياء التي بكاها أحمد شوقي حين القصفِ، وأرسلَ مع الأسيرِ كتابَ اعتذارٍ وتأنيبَ ضميرٍ، وكلّله بالهدايا والعطايا .
سلامٌ على عمرَ بن العزيز وخالدٍ بن الوليد ،في زمن قانون القيصر ،واللعنةُ على من حاصر دمشق وأخواتِها واللعنةُ على مَنْ أقضّ مضجعَك يا ابنَ الوليد، والخزيُ لِمنْ نبشَ قبرَك ياعمَر.
سلامٌ على آيا صوفيا ،المسجدِ والمتحفِ، وسلامٌ على دمشقَ ورجالِها وأحرارِها، وسلامٌ على كلّ ضميرٍ حيّ يغرّد في سربِ الأمة وحضارتها وبنائها.

J_sh_s@hotmail.com

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى