
لحظة تاريخية
بمشقّة بالغة، وصلتُ مع طفلي الطابقَ الخامس من البناية، فقد كان المصعد الكهربائي معطّلا. ضربتُ مرتين جرسَ المكتب الذي يعمل فيه ابن خالتي، فلم يفتح أحدٌ الباب. اتصلتُ من جوّالي على ابن خالتي، الذي يعمل في مكتب أبو النياع، فأجابني بصوت منتعش:
– أهلاً يا بنت خالتي..
– مرحباً يا ابن خالتي. أنا أقف على باب المكتب، يبدو أنّ لا أحد هنا.
– نعم نعم.. الطاقم بكامله يرافق أبو النياع في المقاطعة. نحنُ نتابع جلسة مجلس الأمن التاريخية عبر شاشة عملاقة. ألم تسمعي بالتصويت على إدانة الإستيطان؟ هذه لحظة تاريخية يا بنت خالتي.. لحظة تاريخية!!
– والله لم أسمع بهذه الإدانة يا ابن خالتي. لكن إن كان الأمر كما تقول، لعلّه خيرٌ إذن بخصوص شقفة الأرض. هل فعل أبو النياع شيئاً لنا؟
– ااااه… غداً الحفل إذن؟ ألف مبروك يا ستّي. ان شالله أكون أوّل الحاضرين.
– !! أي حفل؟ أنا هنا لأسأل بخصوص بستاني!.. بستاني الذي يخطط المستوطنون لمصادرته يا أبو السعيد. أخبرتني في الزيارة الأخيرة أنّ أبو النياع وعدك بدسّ هذا الموضوع في ملف المفاوضات.
– أيّ عنب وأي خوخ يا طويلة العمر؟ سامحكِ الله! هذه فواكه صيفية! اسمعي، لا يمكن مناقشة هذا الموضوع على الهاتف.. دقائق وأكون عندك. انتظريني.
– !!! ماذا تقول أنت؟؟ طيّب، أنتظرك. أسرع قدر الإمكان، فالولد –مثل العادة- وضعه متأزّم، يريد الحمّام.
– طيّب طيّب. دقيقتان وأكون عندك.
أنهيتُ المكالمة مع ابن خالتي والدنيا تلفّ برأسي. كان وعدنا أنا وزوجي أن يساعدنا أبو النياع في تخليص بستاننا الذي يُخيّمُ المستوطنون فيه منذ ثلاثة أشهر، فأبو النياع يُساعد بإخلاص أولئك المحسوبين عليه. وابن خالتي محسوب عليه. ونحنُ محسوبان على ابن خالتي، وبالتالي على أبو النياع. هكذا قال.. فلماذا يتوتر الآن ويتهرّب من الحديث حول الأمر وكأنني أستجوبه في جريمة قتل!
كنتُ وصلتُ هنا وعندي بعض الأمل، والآن الوضع لا يشي إلا بالمزيد من النكد. ومما زاد في نكدي هو هذا الولد، طفلي الذي اُضطر لاصطحابه معي كلما جئت هنا. بمجرد أن نصل إلى باب هذا المكتب يُلصق ساقيه بعضهما ببعض، ويقبض سحّاب بنطاله ويبدأ يتهزهز رقصأ، يريد الذهاب إلى الحمّام. هذا برغم أنني أعصره كالاسفنجة قبل المجىء هنا، في محاولة لتجنيبه مغبّة استخدام حمّام المكتب ذو الحالة المُريعة. قبضتُ قبّة قميص الولد وهو يتهزهز، وقرّبت رأسي من رأسه أسأله والجحيم يضطرم في عينيّ: من الأمام أم من الخلف؟
فاصفرّ وجه الولد وأحسستُ بنَفَسه ينقطع هلعاً وهو يشير لي بكلتا يديه إلى الأمام والخلف معا.
“اصبر. دقيقتان ويأتي. لنرى ما القصة” قلتُ، وأخذتُ نَفَساً عميقاً في محاولة لضبط أعصابي.
حاولتُ تصبير الولد قدر استطاعتي. وكل أنواع الأفكار في هذه اللحظات تروح وتجىء في رأسي.
مرّ ما يقارب العشر دقائق قبل أن يطلّ ابن خالتي من أسفل الدرج لاهثا. وبمجرد أن رآني قال معاتباً: يا بنت خالتي! أيّ بستان وأي أرض! هذه القصص ليست في يد أبو النياع.
– لكنّك قلت… أنّ أبو النياع وعدنا….
فتح باب المكتب فدخلنا. قاطع كلامي وصار يشرح لي –بغمّ- كيف أنّ مناخ المفاوضات السيء لا يترك حيلة ولا وسيلة في يد أبو النياع. ثمّ نظر إلى طفلي فافترّ ثغره العملاق عن ابتسامة عريضة وقال بتفاؤل: أمّا بخصوص أزمة ابنك فهنالك مفاجأة..
سار باتجاه الحمّام، ثمّ فتح بابه بحركة مسرحية يعرض لي حُلّته الجديدة، ويخبرني مزهوّاً: لقد ركبّنا حمّاماً جديداً فاخرا.
كان لساني قد التجم أثناء حديثه. وشعرتُ برأسي يفرغ من كل الأفكار وأنا اُحدّق بذهول في الحُلّة الجديدة للحمّام. لحظاتٍ مرّت، ثمّ عدتُ فاستجمعتُ وعيي، وسحبتُ طفلي من يده وأوقفته قبالة المشهد السُريالي للحمّام الجديد. وقلت: أترى يا ماما؟ يا روح الماما؟ في هذه اللحظة التاريخية صار بمقدورك أن تشخّ بكامل راحتك، وكما ينبغي.
