العولمة والأزمة والنظام العالمي الجديد

العولمة والأزمة والنظام العالمي الجديد
د. ماجد العبلي

يُعدّ مفهوم العولمة من أكثر المفاهيم جدلا في سياق العلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بسبب ترابطه الشديد بموضوع آخر هو (النظام العالمي الجديد) الذي يجسد التنظيم الدولي الحالي كما تناولته نظرية (إيمانويل فالرشتاين: النظام العالمي الحديث: 1974، 1980، 1989) والذي يقسّم النظام الدولي القائم إلى ثلاث دوائر وفقا لمبدأ القوة بمفهومها الشامل، حيث يتشكل العالم الراهن وفقا لهذه النظرية من دائرة صغرى (نواة أو مركز) ويتألف من تحالف الدول الصناعية الكبرى (حكومات وشركات ومنظمات)، ومن دائرة كبرى تمثل (المحيط) ويتألف من دول العالم النامي(غير الصناعية)، ومن دائرة متوسطة تمثل (شبه المحيط) ويتألف من مجموعة من الدول شبه الصناعية التي تؤدي دورا وظيفيا استراتيجيا يتمثل بحفظ استقرار النظام وفقا لمصالح دول المركز.
وبحكم الترابط الشديد وتبادل التأثر والتأثير ما بين العولمة والنظام العالمي القائم فقد تم التعامل مع مفهوم العولمة -على نطاق واسع- وكأنه تعبير عن بنية النظام العالمي القائم وما يصدر عن وحداته من أنشطة. كما ومن خلال بنية التنظيم الدولي المشار إاليها آنفا، يمكن الاستدلال بسهولة على ما تنطوي عليه من مبادئ الهيمنة والاستغلال والتضليل. هذه المبادئ الجائرة التي يتسم بها التنظيم الدولي، تم إسقاطها- بوعي أو دون وعي- على مفهوم العولمة، ما جعل العولمة في نظر الكثيرين تحمل وزر النظام الدولي وهي منه براء. إضافة إلى أن العولمة فضاء حر للتنافس غير المحدود بين وحدات النظام الدولي، ما يعني بالضرورة أن الأقوى سيفرض شروطه على الأضعف.
وهذا يدعم ما ذهب له بعض المنظرين الذين رأوا أن العولمة ظاهرة تاريخية ضاربةٌ جذورُها في التاريخ، باعتبارها نزوعٌ إنساني نحو العالمية، حيث إن طبيعة الإنسان تدفعه بالأساس إلى الانفتاح على الآخر وتوسيع دوائر اتصاله ومداركه وأنشطته ومصالحه.
وبذلك فإن العولمة تعبر عن شبكة العلاقات ما بين الأفراد والجماعات التي نشات منذ زمن بعيد وظلت تزدا توسعا وكثافة وتسارعا وتداخلا وتعقيدا مع تطور أفكار وطموح وإمكانات التجمعات الإنسانية عبر التاريخ، حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن من المتانة والتعقيد، حيث باتت تشكل الآن نسيجا إنسانيا عالميا يحقق مصالح أكثرية المجتمعات والحكومات والمنظمات الفاعلة.
وبالتالي فقد أصبحت العولمة ثقافة إنسانية لا سبيل للردة فيها، حيث لم تعد قابلة للانهيار، لكنها كظاهرة تاريخية ستظل -كما كانت دائما- قابلة للتأثر والتعديل والتطور (تسارعا أو تباطؤا، وتوسعا أو انكماشا) بفعل النظام العالمي القائم في كل حقبة تاريخية.
أما النظام العالمي القائم والذي تتحكم بمعظم عملياته دول المركز تحت ظلال القوة العسكرية الضاربة وأجهزة الاستخبارات الكبرى، ومن خلال الشركات والمنظمات العالمية المتنوعة، فإنه قابل للتأثر بالعولمة، وقابل للتعديل والتغيير والانهيار تحت تأثير الأزمات.
فإذا ما تعرض النظام لأزمة تستطيع دول المركز التحكم بها والتعايش معها أو حلها، فإنه سيحافظ على بنيته دون تعديل، بحيث سيمنح النجاح في تخطي الأزمة شرعية إضافية لتركيبة النظام ومركزه وقيادته وترتيب القوى داخله.
وإذا ما حدّت الأزمة وتداعياتها من قدرات قيادة مركز النظام (الوحدة القائدة)، فإنها قد تؤدي إلى حلول وحدة أخرى محلها (من دول المركز) قادرة على قيادة النظام، أو تشكيل قيادة جماعية مؤقتة على الأقل، وذلك في سبيل الحفاظ على تكريبة النظام.
أما إذا ما حدّت الأزمة من قدرات دول المركز جميعا، بحيث صارت عاجزة عن تحمل تكاليف قيادة النظام الذي سيصبح برمته معرضا للخطر المحدق، فإن دول المركز ستقبل آنذاك تغييرا يحافظ على تركيبة هذا النظام، بحيث ستتقبل دخول وحدات جديدة من خارج دول المركز كأعضاء في نواة النظام، بل قد تتقبل أيضا تولي إحدى هذه الوحدات الجديدة قيادة المركز لتحقيق الاستقرار للنظام، ما يعني توسّع عضوية القوى الكبرى القائدة للنظام لتصبح إحدى عشرة، بإضافة الصين وروسيا والهند والبرازيل للقوى السبعة (G7) تحت تسمية جديدة هي(G11).
وإذا لم تتقبل دول المركز هذا التغيير، فإنها قد تفتعل حربا عالمية كبرى تسعى من خلالها لتحطيم كل القوى الكبرى المنافسة أو تحطيم القوة الأبرز(الصين)، وفي هذه الحالة سينهار النظام العالمي القائم، وستتولى القوى المنتصرة بناء تنظيم عالمي جديد يقوم على قواعد جديدة.
وإذا ما تحطمت كل القوى المشاركة في تلك الحرب، فإن القوى التي لم تشارك في الحرب ستكون عمليا هي الدول المنتصرة، وحسب موازين القوى بين هذه القوى سيتم بناء نظام عالمي جديد يقوم على قواعد جديدة.
وفي كل الأحوال تبقى كل هذه الاحتمالات تدور في إطار بنية النظام الدولي، وليس في إطار العولمة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى