الحب في مكان آخر / خيري منصور

الحب في مكان آخر

المكان قدر تعلقه بواحدة من أقدم وأعمق العواطف البشرية هو زمان أيضا، فالتاريخ ليس في قطيعة مع الجغرافيا، والجغرافيا كما يقول بعض المؤرخين ليست سوى تاريخ تصلّب وتحوّل إلى تضاريس، لأنها توجه بوصلته، وأحيانا تصبح الجغرافيا والتاريخ في حالة من الجدلية أشبه بما قاله أرسطو عن التمثال الذي لا تنفصل المادة المصنوع منها عن ملامحه.
وحين كتب ميلان كونديرا عن الحياة التي هي غالبا في مكان آخر، كان يعني الرواية، فهي ليست تعبيرا عن الراهن المرئي، بقدر ما هي تعبير عن المحلوم به والمتخيل، بدون أن ينقطع عن جذره الواقعي، وهي في نهاية المطاف فن اللاامتثال أو العصيان على المعطى، كما عرّفها واحد من أشهر دارسيها ونقادها، وهو البيريس. والحب الذي اتسع حرفاه لكل ما يمكن أن تتيحه الأبجدية من كلام، له في لغتنا خصوصية فريدة، فالحاء هي المنبع والباء هي المصب، وعندها تطبق الشفتان تماما، وتكون خاتمة الكلام، لهذا يصل الصمت ذروته في القبلة التي تشترط اثنين كرقصة التانغو، ولا يمكن لأحد أن يقبّل ذاته مهما بلغ من النرجسية، إلا من خلال المرايا، وتلك حكاية أخرى، وهناك ظواهر في ثقافتنا تحتاج إلى فك اشتباك لتبديد ما يعلق بها من التباس، منها الخلط بين الحب والغزل، ومعظم ما نسب من شعر إلى الحب كان أقرب إلى الغزل، الذي يتحقق فيه الانفصال والقطيعة بعكس الحب الذي يردم الهوة، ويحقق الاندماج وربما كان تعبير بول جيرالدي هو أدق ما قيل عن ذلك، حين أهدى حبيبته قصائد قال إنها تهدف إلى حذف حرف الواو الفاصلة بينه وبينها، فالحب لا يعني الامتلاك، وبالتالي فهو متسامح في كل أوان، كما أنه يشترط كما تقول أيريس ميردوخ الروائية ومؤلفة واحد من أهم الكتب عن سارتر، وجود شخص حقيقي خارج الذات وليس مجرد انعكاس نرجسي أو امتداد أفقي لها، وأفضل مثال في هذا السياق هو موقف الفيلسوف الوجودي سيرين كيركيغارد من حبيبته روجينا، فقد قرر أن يفارقها رحمة بها وبرقتها وببراءتها، كي لا تصاب بعدوى قلقه الوجودي، وتصبح لكل شيء تشمه، حتى لو كان وردا، رائحة العدم، ورغم اقتران قصص الحب الأكثر شهرة بالرومانسية، إلا أن ذلك كان نتيجة التحقيب الأدبي أكثر مما كان وليد الحياة ذاتها، لأن الحب يتجاوز التحقيب المذهبي للأدب، وهو رومانسي واقعي معا، وأحيانا يجازف بدمج المقدس والمدنس، لأن أطرافه بشر وليسوا ملائكة أو شياطين فقط، ومن كتبوا عن ظاهرة الحب العذري خارج المدار الأكاديمي التقليدي أعادوا دوافعه إلى منابع أخرى، بدءا من الفرنسي دينيس دوريجمون في كتابه «الحب والغرب»، وليس انتهاء بصادق العظم وطاهر لبيب ويوسف اليوسف، ومنهم من رأى أنه تعبير عن ظاهرة اجتماعية سياسية، كالطاهر لبيب، أو بحثا عن سبل لتوتير العلاقة وافتعال العقبات التي تحول دون الوصال، لأن إشباع الرغبة يعني بالضرورة نهايتها، لهذا تحول الحرمان في هذا النمط من الحب إلى مطلب إنساني وشعري.
وقبل أن تصبح هناك ظاهرة معروفة باسم الحب العذري، كان ليكورغ مشرّع إسبارطة يفرض على الشبان الحرمان والامتناع عن الوصال اعتقادا منه بأن سلالتهم ستكون أقوى وأصلب، وحين كتب أراغون ملحمته «مجنون ألزا» مستلهما روح ليلى ومجانينها العذريين في تراثنا العربي، أعاد إنتاج الحكاية، فالزا تريوليه زوجته وليست المرأة التي يحبها عن بُعد، ومن خلالها انحاز إلى الأنوثة باعتبارها مستقبل البشرية، لأنه بتكوينه الثقافي وموقفه الأيديولوجي كيساري فرنسي كان لا بد أن يحرر الحكاية من سطوة الحرمان التي تبلغ لدى الشاعر العذري حدّ الماسوشية.
وبالعودة إلى عبارة أيريس موردوخ، وهي أن الحب يشترط الاعتراف بوجود كائن حقيقي خارج الذات، نجد أن هذا الفهم يقلب المفهوم الشائع والمتوارث عن الحب رأسا على عقب، لأن هذا الاعتراف بالآخر يبرر له حق الاختيار وعدم الارتهان، بحيث يصبح للخيانة معنى مغاير تماما، وهو المعنى الذي نجده في «رباعية الإسكندرية» للورنس داريل، حين تشعر جوستين بالاثم لاقترافها الخيانة مع نسيم حصناني وتنتظر منه أن يعاقبها كي تحقق التوازن النفسي والأخلاقي، لكنه يرفض ذلك، قائلا لها إنه ليس مستعدا لغسل آثامها برذاذ الكلمات الغاضبة.
ومثل هذه المواقف تبدو صادقة لمن تربوا على مفاهيم تقليدية لا ينفصل فيها الحب عن الامتلاك، وحين قارن أليوت بين الحب في الماضي والحب في النصف الأول من القرن العشرين اختار ضفاف نهر التايمز لتجسيد الفارق، فالمناديل الحريرية وزجاجات العطر اختفت لتحل مكانها الأوراق الملوثة وعلب الصفيح الفارغة والزهور الصناعية، وسواء كتب الروائيون عن الحب في زمن الكوليرا أو في زمن الشراشف القذرة المبقعة بدماء الجرحى، كما فعل ماركيز وهمنغواي، فإن الحب لا يعيش معزولا عن بيئة إنسانية تخطى فيها الآدمي شرطه العضوي لهذا حين قرر همنغواي أن يجد الخلاص للإنسان من الحرب بالحب، دفع بطل روايته وحبيبته إلى الفرار من ساحة الحرب إلى جبال الألب البيضاء، لكنها ماتت أثناء المخاض، وذلك تعبيرا عن أن الحب لا ينجو في زمن الكراهية وأن الجنين الذي لم ينتج عن الحب وكيميائه غير مسموح له بالنجاة أيضا.
ومن يدري، لعل ما قاله كونديرا عن الحياة في مكان آخر وكذلك الشعر والرواية يصح على الحب بدرجة أكبر فهو الآن في مكان آخر، وربما في زمان آخر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى