وداع رمضان واقتناص الفوائد واجتناء الثمار

#وداع_رمضان واقتناص الفوائد واجتناء الثمار

#ماجد_دودين

ها هو الضيف الكريم يلوح بالرحيل، تمضي أيامه مسرعةً وكأنها حلمٌ جميل.

فيا أيها الضيف الكريم على رِسلك؛ فقلوبنا لا زالت مشتاقةً إلى وَصْلِك.

مقالات ذات صلة

انتظر… تمهل فما أجمل مقامك، وما أحلى أيامك … وما أمتع صيامك!!

لقد ذقنا فيك لذةً في غيرك ما ذقناها، لقد عشنا فيك عيشةً في غيرك ما عشناها!

فكيف ترحل عنا بعد أيام لنا حُلوة قضيناها؟!

ولكن تلك مقادير ربي جل وعلا وتقدّس قدّرها وسواها

انقضت أيامُ رمضانَ مسرعة، ولم يبقَ منه إلا أيامٌ قلائل، ووجب علينا التنبيه، والتنويه لما فات ولما بقي … فانتبهوا فسوف تمر هي الأخرى كلمح البصر.

ألا فشمروا عن ساعد الجد في هذه الأيام، واهجروا لذيذ المنام، واقتدوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم، فقد كان يخص العشر الأواخر بأعمال لا يعملها في بقية الشهر؛ يخصها بالاعتكاف والقيام، والاغتسال كل ليلة بين العشاءين، والتنظف والتطيب، وإحياء الليل كله، فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: “كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيره”،  وقد كان السلف إذا دخلت العشر؛ رفعوا الهمة إلى منتهاها، وبذلوا كل الطاقة، وكيف لا والعشر هي آخر السباق.

إن الخيل إذا قاربت رأس مجراها؛ أخرجت كل ما عندها.

فالسعيد من اغتنم موسم العمر قبل ذهابه، وحاسب نفسه قبل قراءة كتابه، وراقب مولاه مراقبة من يعلم أنه يراه في ذهابه وإيابه.

فينبغي أن نراعي هذا الفضل مدةَ عمرنا، ولا نضيِّع هذه الليالي المباركات، التي أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – قطعًا أن ليلة القدر فيها؛ فلعل أحدنا يكون قد مات قبل أن يدرك العشر الأواخر في العام القادم: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ في جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر: ٥٦ – ٥٧]، أو تقول: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: ٧٣].

يقول الله سبحانه وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: ١٣٣].  الله سبحانه وتعالى يقول: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: ٢٦].

وهذه الأيام في آخر الشهر تحتاج للمناقشة حتى يستطيع الإنسان الحصول على أعلى الدرجات، وتحتاج إلى المسارعة بل ومسابقة الأنفاس لأنها تمر مَرَّ السحاب، وكل لحظة مرت لا تعود ولا تعوض؛ فسابق أجلك، وأدرك رضا الله بعملك، واشحذ همتك؛ فهذا أوان جِدَّك.

وظائف آخر الشهر

أولًا: وقفة صادقة مع الله ومع النفس: لا بد من وقفة صادقة دون كذب أو خداع أو مواربة، لم يبق من الشهر إلا القليل فماذا أنت صانعٌ فيه؟ في هذه الوقفة تنظر فعليًّا وبعد تفرغ تام:

* هل أديت العبادات على وجهها؟ * هل عشت رمضان حقيقةً كما يحب ربنا ويرضى؟

* هل ذاق قلبك طعم العبادات؟ * هل حصلت التقوى المنشودة المقصودة من وراء هذا الصيام؟

* هل تلوت القرآن وسمعته وأحيا الله به مَوَاتَ قلبك؟ * هل تغير البيت وتحول نمط الحياة عندك فصرت عبدًا ربانيًّا؟ * هل أحسست بتغييرٍ فعلي في قلبك فرأيت نورًا جديدًا؟ * هل بعد هذا التغيير عازمٌ على الثبات فلن تعود إلى المعاصي؟ * هل تظن بعد هذه الليالي الطويلة أنك قد أعتقت رقبتك من النار؟ * هل بعد كل تلك الليالي وفيها من فرص المغفرة ما فيها؛ تظن أنك قد غفر لك ما تقدم من ذنبك؟ لا تجامل … ولا تتجاهل …قف وقفةً صادقة واستعن بالله على نفسك …وأصدق الله يصدقك وأجب عن الأسئلة، وما زالت أمامك فرصة، هيا ركز في الأيام الباقية واعملْ عملَ من يريد أن يستدرك ما فات. هيا انطلق وتخلص من قيودك، وتبرأ من عيوبك، والتمس رضا ربك … هيا اعمل ودعك من الكسل، وودع الأمل، وسارع الأجل، ولا تترك فرصةً للعمل إلا وعملت بها … اعتكف كل الباقي، وداوم على العبادة، واجتهد في البكاء وطلب العفو … كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: ٦٠]. قال علي بن أبي طالب: كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله -عز وجل- يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: ٢٧]، أنت قد عملت، ولكن هل قُبِل عملك؟، هذا هو الأخطر، قبول العمل، فكم من عملٍ يتقنه صاحبه ويحسنه ويزينه ثم يرده الله عليه ولا يقبله، وذلك بسوء نية صاحبه، اللَّهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم.

الخوف على العمل ألا يتقبل أشد من العمل، وقال عبد العزيز بن أبي رواد: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا، هذا هو فقه السلف وفهمهم، فكم من مغرورٍ بعمله وليس له منه شيء، كم من معجبٍ بصلاته وليس له فيها حسنة!!

ولذلك خرج عمر بن عبد العزيز على الناس في يوم عيد الفطر وقال في خطبته: أيها الناس، إنكم صمتم لله ثلاثين يومًا، وقمتم ثلاثين ليلة، وخرجتم اليوم تطلبون من الله أن يتقبل منكم … فاللَّهم تقبل منا يا رب. وكان عبد الله بن مسعود يقول في آخر ليلة من رمضان: من هذا المقبول منا فنهنيه، ومن هذا المحروم منا فنعزيه، أيها المقبول هنيئًا لك، أيها المردود جَبَرَ الله مصيبتك.

فيا أرباب الذنوب العظيمة، الغنيمةَ الغنيمة، في هذه الأيام الكريمة، فما منها عِوضٌ ولا قيمة، فمن يعتق فيها من النار فقد فاز بالجائزة العظيمة، والمنحة الجسيمة، يا من أعتقه الله من النار، إياك أن تعود بعد أن صرت حرًّا إلى رِق الأوزار، أيبعدك مولاك عن النار وتتقرب منها!!، وينقذك منها وأنت توقعُ نفسك فيها ولا تحيد عنها!! … ويا أيها العاصي، لا تقنط من رحمة الله بسوء أعمالك، فكم يعتق من النار في هذه الأيام من أمثالك؛ فأحسن الظن بمولاك وتب إليه؛ فإنه لا يهلك على الله إلا هالك.

ثانيًا: ملازمة الاستغفار:  لقد رأيت أن الله سبحانه وتعالى أمر عباده بعد الحج بالاستغفار فقال سبحانه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: ١٩٩]، وذكر الله عن العابدين المتهجدين أنهم كانوا يختمون صلاتهم بالاستغفار، فقال سبحانه وتعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: ١٧ – ١٨].

قال الحسن: مَدُّوا الصلاة إلى السَّحرَ ثم جلسوا يستغفرون. وكان من هدي النبي محمَّد – صلى الله عليه وسلم – إذا انتهى من الصلاة أن يستغفر ثلاثًا فيقول: أستغفر الله … أستغفر الله … أستغفر الله …لذلك نقول: أكثِر من الاستغفار في نهاية صيامك، استغفر الله كثيرًا ترتق ما انفتق من صيامك. كان بعض السلف إذا صلى صلاة استغفر من تقصيره فيها كما يستغفر المذنب من ذنبه، سبحان الله!، إذا كان هذا حال السلف الذين أحسنوا عبادتهم وأتقنوها وأخلصوا فيها، فكيف حال المسيئين مثلنا في عباداتهم!!

وقال عمر بن عبد العزيز في كتابه إلى الأمصار بمناسبة آخر رمضان: قولوا كما قال أبوكم آدم: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: ٢٣]، وقولوا كما قال نوح عليه السلام: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: ٤٧]، وقولوا كما قال موسى – عليه السلام -: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: ١٦]، وقولوا كما قال ذو النون -عليه السلام -: {لًا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: ٨٧].

ويروى عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: الغيبة تخرق الصيام والاستغفار يرقعه، فمن استطاع منكم أن يجيء بصوم مرقع فليفعل. وعن ابن المنكدر قال: الصيام جُنَّةٌ من النار ما لم يخرقها، والكلام السيء يخرق هذه الجُنَّة، والاستغفار يرقع ما تخرَّقَ منها. فصيامنا هذا يحتاج إلى استغفارٍ نافع، وعمل صالح له شافع، كم نخرق صيامنا بسهام الكلام، ثم نرقعه وقد اتسع الخَرْق على الراقع، كم نصلح خروقه بمخيط الحسنات ثم نقطعه بحسام السيئات القاطع.

يا رب، ارحم من حسناته كلها سيئات، وطاعاته كلها غفلات. وقريب من هذا أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – لعائشة – رضي الله عنها – في ليلة القدر بسؤال العفو؛ فإن المؤمن يجتهد في شهر رمضان في صيامه وقيامه، فإذا قرب فراغه وصادف ليلة القدر لم يسأل الله تعالى إلا العفو كالمسيء المقصر.

كان صِلَةُ بنُ أَشيَم يُحيي الليل ثم يقول في دعائه عند السحر: اللَّهم إني أسألك أن تجيرني من النار، وهل من هو مثلي يجترئ أن يسألك الجنة؟!

أنفع الاستغفار ما قارنته التوبة وهي حل عقدة الإصرار، فمن استغفر بلسانه وقلبه على المعصية معقود، وعزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد الشهر؛ فمردود، وباب القَبول عنه مسدود، قال كعب: من صام رمضان وهو يحدِّث نفسه أنه إذا أفطر بعد رمضان أنه لا يعصي الله؛ دخل الجنة بغير مسألة ولا حساب، ومن صام رمضان وهو يحدث نفسه إذا أفطر بعد رمضان عصى ربه فصيامه عليه مردود.

عباد الله … شهر رمضان قد أوشك على الانتهاء، فمن منكم حاسب نفسه فيه لله وانتصف، من منكم قام في هذا الشهر بحقه الذي عَرَف، من منكم عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبنيَ له فيها غرفًا من فوقها غرف، ألا إن شهركم قد أخذ في النقص؛ فزيدوا أنتم في العمل فكأنكم به وقد انصرف، فكل شهر عسى أن يكون منه خلف، وأما شهر رمضان فمن أين لكم منه خلف؟!!

ثالثًا: سؤال الله العفو، والتركيز على هذا السؤال، والانشغال بذلك: قالت عائشة – رضي الله عنها – للنبي – صلى الله عليه وسلم -: أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها؟، قال: “قولي اللَّهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني”.

العفوُّ من أسماء الله تعالى، وهو يتجاوز عن سيئات عباده، الماحي لآثارها عنهم، وهو يحب العفو فيحب أن يعفو عن عباده، ويحب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض، فإذا عفا بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه، وعفوه أحب إليه من عقوبته، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول:” أعوذ برضاك من سَخَطِك وبمعافاتك من عقوبتك”.

قال يحيى بن معاذ: لو لم يكن العفو أحبَّ الأشياء إليه؛ لم يبْتَلِ بالذنب أكرمَ الناس عليه، يشير إلى أنه ابتلى كثيرًا من أوليائه وأحبابه بشيء من الذنوب، ليعاملهم بالعفو فإنه يحب العفو، قال بعض السلف الصالح: لو علمت أحبَّ الأعمال إلى الله تعالى، لأجهدتُ نفسي فيه، فرأى قائلًا يقول له في منامه: إنك تريد ما لا يكون، إن الله يحب العفو، أن يعفو، وإنما أحبَّ أن يعفوَ، ليكون العباد كلهم تحت عفوه، ولا يُدِلُّ أحدٌ منهم بعمل.

وقد جاء في حديث ابن عباس مرفوعًا أن الله ينظر ليلة القدر إلى المؤمنين من أمة محمَّد – صلى الله عليه وسلم – فيعفوَ عنهم ويرحمَهم إلا أربعة: مدمن خمر، وعاقًّا، ومشاحنًا، وقاطعَ رحم.

لما عرف العارفون بجلاله خضعوا، ولما سمع المذنبون بعفوه طمعوا، ما ثَمَّ إلا عفو الله أو النار، لولا طمع المذنبين في العفو لاحترقت قلوبهم باليأس من الرحمة، ولكن إذا ذكرت عفو الله استروحت إلى برد عفوه.

اللَّهم إن ذنوبي قد عظمت، وإنها صغيرة في جَنْبِ عفوك فاعف عني.

يا كبير الذنب عفو الله من ذنبك أكبر، أكبر الأوزار في جنب عفو الله يصغر؛ وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر؛ لأن العارفين يجتهدون في الأعمال، ثم لا يرون لأنفسهم عملًا صالحًا ولا حالًا ولا مقالًا، فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصر

ليس بعارف من لم يجعل غاية أمله من الله العفو.

اللَّهم ارض عنا، فإن لم ترض عنا فاعف عنا، من عظمت ذنوبه في نفسه لم يطمع في الرضا، وكان غاية أمله أن يطمع في العفو، ومن كملت معرفته لم يرَ نفسه إلا في هذه المنزلة.

رابعا: بذل أقصى حدِّ في الاجتهاد: في صحيح مسلم من حديث عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: “كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره”.

ينبغي أن يكون الاجتهاد في أواخر الشهر أكثر من أوله لشيئين:

أحدهما: لشرف هذه العشر، وطلب ليلة القدر.

والثاني: لوداع شهرٍ لا يدري هل يلقى مثله أم لا.

وقد يحصل من بعض الناس العكس، أنك تجد في أول رمضان شيئًا من النشاط والهمة في العمل، ثم يصاب بالفتور بعد ذلك، أو ينشغل بتفاهات تشغله عن إكمال الشهر كما ينبغي.

رغم أن المفروض هو العكس لو كان للعمل ثمرة؛ فإنه كلما زاد من الطاعات والعبادات التي يؤديها كل يوم في رمضان يترقى درجة إن كان من المقبولين، فتزداد طاعاته وقرباته في اليوم التالي حتى يصل إلى أقصى علو همة عند نهاية الشهر، كما كان هذا شأن النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، فإنه كما مر معنا كان – صلى الله عليه وسلم – إذا دخل العشر شدَّ المِئْزَر، وأيقظ أهله، وأحيا الليل كُلَّه.

وقد ذُكر عن بعض السلف أنه حين أتاه الموت وفي سياق السكرات، كان يقوم ويقعد -يعني يصلي- فقيل له: في مثل هذه الحال؟، أرح نفسك، فقال: إن الخيل إذا بلغت إلى رأس مجراها، أخرجت أقصى ما عندها، وأنا أسابق بأنفاسي، فأنت الآن تسابق الساعات، فرمضان على وشك الانتهاء، فابذل أقصى ما تستطيع

خامسًا: إياك والعجب والغرور: إياك والأمراض القلبية؛ إنما شرع الصيام والقيام وتلك الأعمال التي أديتها في رمضان لتزكية النفس وإصلاح القلب؛ ولكن هناك بعض الأمراض المستوطنة التي يصعب اقتلاعها بسهولة، منها هذا الداء الدفين والمرض الخبيث: العجب ورؤية النفس.

قال ابن القيم -عليه رحمة الله: بين العمل وبين القلب مسافة، وفي تلك المسافة قُطَّاع طرق تقطع الطريق على العمل أن يصل إلى القلب، فتجدُ الرجلَ كثيرَ الصلاة كثيرَ الصيام، كثيرَ الذكرِ وتلاوةِ القرآن ولم يَصِلْ إلى قلبه من عملهِ شيء، لا خوف، ولا رجاء، ولا محبة. ولا يقين، ولا رضا، وقد تستولي النفس على العمل الصالح فتصيِّره جندًا لها فتصول به وتطغى، فترى الرجلَ أعبدَ ما يكون، أزهدَ ما يكون، وهو عنِ اللهِ أبعدُ ما يكون.

الشاهد من هذا الكلام أن النفس قد تستولي على العمل الصالح فتصول به وتطغى فاحذر من ذلك، أن تستولي نفسك على مشاق الأعمال في رمضان، من صيام وقيام وقرآن وذكر واعتكاف وغيرها، وتصول بها على سبيل الفخر، وتنتفخ بها بالزهو والتعالي على الآخرين، فتخسر كل ذلك، وتفقد ثواب العمل، ونتيجة العمل، فالحذرَ الحذر.

إن من علامات القبول أن يزداد الإنسان انكسارًا وذُلًّا وخضوعًا للرب جل جلاله … فازدد ذُلًّا؛ تزدد قُربًا.

إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، فمن منكم أحسن فعليه بالتمام، ومن فرط فيه فعليه بالحسن والعمل بالختام، اغتنموا منه ما بقي من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملًا صالحًا يشهد لكم عند الملك العلام، وودعوه عند فراقه بأزكى تحيةٍ وسلام.

قلوبُ المتقين إلى هذا الشهر تحِنّ، ومن ألم فراقه تئِنّ، كيف لا تجري للمؤمن على فراقه دموع، وهو لا يدري هل بقي له في عمره إليه رجوع.

يا حسرةَ مَنْ فاته الخيرُ في رمضان، كم نُصِحَ المسكين فما قبل النصح، كم دُعِيَ إلى المصالحة فما أجاب إلى الصلح، كم شاهد الواصلين فيه وهو متباعد، كم مرت به زُمَرُ السائرين وهو قاعد، حتى إذا ضاق به الوقت، وخاف المَقْت ندم على التفريط حيث لا ينفع الندم، وطلب الاستدراك في وقت العدم.

أيام العشر أيام الحياة … فيها الخيرات والبركات، والأجور الكثيرة، والفضائل الجزيلة، فيها تزكو الأعمال، وتُنال الآمال، كيف لا والنبي – صلى الله عليه وسلم – كان يسهر ليلَه ويقوم الليلَ كُلَّه.

هذه العشر تُملأ فيها المساجد، ويخشع فيها الراكع والساجد، وينهض إلى الخيرات كل قاعد، ويصير الراغب كالزاهد، شرَّف الله أوقات رمضان على سائر الأوقات، وخَصَّ العشر الأواخر بمزيدِ فضلِ وإكرام، فأجزَلَ فيها الإفضال والإنعام، ودليلُ فضله أن فيها ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر.

·         بتصرّف واختصار من كتاب أسرار المحبين في رمضان للشيخ [محمد يعقوب]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى