هل أصبحت تركيا عضوا في نادي الكبار؟/ داود عمر داود

هل أصبحت تركيا عضوا في نادي الكبار؟

المتابع لمجريات الأمور، هذه الأيام، يلاحظ بروز الدور التركي على الساحة الدولية، بحيث أصبحت أنقرة قبلة لقادة العالم يتقاطرون إليها واحدا تلو الآخر، ويتسابقون لخطب ودها. فهل الظروف والتغيرات التي جرت دوليا ساعدت تركيا للارتقاء بدورها الوظيفي من مهمة “الحراسة”، التي أُوكلت اليها بعد الحرب العالمية الثانية، إلى أن تلعب دورا في حفظ التوازنات الدولية الجديدة الآخذة بالتشكل؟
2016: علامة فارقة
من الواضح ان التغيرات التي شهدتها الساحة الدولية، عام 2016، سيكون لها ما بعدها. أهمها بالنسبة لتركيا فشل الانقلاب العسكري، الذي لم يطح بجماعة فتح الله غولن فحسب، بل اطاح الانقلاب أيضا بشكل العلاقة التي ربطت تركيا مع الغرب. فقد استغلت تركيا الفشل المريع للانقلاب لتتخلص من دورها، الذي فُرض عليها سابقا، كدولة تابعة في فلك الغرب، لتصبح دولة ندا لأي من دوله.
الاتجاه نحو روسيا
فكيف حدث هذا التحول؟ لقد غضبت تركيا من المماطلة في قبول طلبها للانضمام للاتحاد الاوروبي، ثم جاء تعاطف اوروبا، والغرب عموما، مع الانقلاب الفاشل بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير. فاقتنصت تركيا هذه الفرصة التاريخية، بمنتهى الذكاء، لتتجه شرقا نحو روسيا، التي شاءت الظروف ان تكون علاقاتها سيئة مع الغرب، نتيجة الازمة الاوكرانية، والعقوبات المفروضة على موسكو.
اهتزاز الاتحاد الاوروبي
تزامن هذا التطور مع الهزة التي التي أصابت اوروبا، نتيجة قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الاوروبي. حيث رأى مراقبون ان ذلك وضع أول مسمار في نعش الاتحاد، إذ شجع تصرفُ بريطانيا دولا اخرى أعضاء ربما تحذو حذوها مستقبلا. حدث هذا في وقت أطل فيه تيار اليمين المتطرف برأسه، في دول القارة الاوروبية.
زعزعة أمريكا من الداخل
ومقابل هذه الهزة التي زعزعت كيان اوروبا، كان الامريكيون على موعد مع فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة، الذي كان مجيئه بمثابة هزة عنيفة زعزعت كيانهم الداخلي أيضا، سواء جاء فوزه بتدخل من روسيا أو بدونه. وقد زادت شدة الهزة في اوروبا بصعود ترامب الى قمة السلطة في امريكا. حيث هاجم حلف الناتو، الذي يقف في وجه روسيا، واتخذ مواقف ايجابية من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الأمر الذي اربك دول القارة بكاملها، والتي أصبحت تخشى على مستقبلها، نظرا للسرعة التي اختلت فيها التوازنات الدولية، التي أرست قواعدها تفاهماتُ ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي اصبحت الان في مهب الريح.
ثقة بالنفس
وفي ظل هذه الاجواء العالمية المتوترة، سارت تركيا في تنفيذ سياستها بخطى واثقة. فسارعت إلى توطيد علاقاتها مع روسيا، بتأسيس مشاريع مشتركة عملاقة معها، في مجالي الغاز والنفط. ثم قامت بتصفير مشاكلها الاقليمية من جديد، مع اسرائيل اولا، ثم مع العراق، ثم جاء تفاهمها مع موسكو لوقف القتال في سوريا، والاتجاه بالازمة السورية الى مسار التفاوض بدل القتال، بمعزل عن واشنطن التي اشتكت من تهميشها من قبل روسيا وتركيا.
أهمية الدور التركي في عالم اليوم
استغلت تركيا الوضع الناجم عن كل هذه العوامل، وحالة “عدم اليقين”، التي تهيمن على الدول، لتشق لنفسها طريقا وضعها في مركز العالم، وفي منتصفه، بين الشرق والغرب، واصبحت كلمتها مسموعة من كل الاطراف على الساحة الدولية، وأخذت تلعب مجموعة من الأدوار المتشابكة. وإلا ما الذي جاء برئيسة وزراء بريطانيا الى أنقرة مباشرة بعد زيارتها لواشنطن، عاصمة الدولة الأولى في العالم؟ وما الذي جاء إلى أنقرة برئيسة أقوى اقتصاد اوروبي، المستشارة الالمانية انجيلا ميركل، بعد تريزا ماي بأيام؟
إن إغتنام فرصة اللعب على التوتر الروسي – الغربي يدل على عبقرية سياسية فذة، رافقها تفاني واخلاص، وحرفية في الأداء، لخدمة المصالح الذاتية للبلاد، مما جعل تركيا تبدو وكأنها بوابة روسيا. فمن اراد شيئا من الكرملين عليه أن يأتي اولا إلى المجمع الرئاسي الجديد، ذي الالف غرفة، في أنقرة.
الكل يحتاج تركيا
وهكذا أصبح الكل بحاجة الى تركيا، فازداد موقفها قوة على قوة. فروسيا تحتاجها، والصين تحتاجها، وبريطانيا، وفرنسا، والمانيا، وامريكا التي أعلن رئيسها ترامب أن ابنته معجبة بالرئيس التركي. واقليميا أيضا الكل يحتاج تركيا. فايران تحتاجها، والعراق يحتاجها، واسرائيل تحتاجها، وحماس تحتاجها، وكذلك السلطة الفلسطينية، والسعودية تحتاجها، وقطر، وحتى سوريا بشار الاسد تحتاجها، والمعارضة السورية تحتاجها. فأصبحت تركيا في وسط المعادلة الدولية، يحتاجها كل من هم على طرفي نقيض من بعضهم البعض.
الإمساك بخيوط اللعبة الدولية
خلاصة القول إذن، أن كل طرف من هذه الأطراف، الدولية والاقليمية، يريد أن تتوسط له تركيا عند طرف آخر. لهذا ارتفعت أسهمها لدى دول العالم، الكبيرة منها والصغيرة، وهو أمر لم يحصل في تاريخها الحديث. ولم يمر زمان، خلال المائة عام الماضية، كانت تركيا تُمسك فيه بخيوط اللعبة الدولية بهذا الشكل. إضافة إلى أن المنطقة لم تشهد بروز زعيم اقليمي، عربي أو مسلم، أتقن فنون هذه اللعبة مثلما أتقنها الرئيس التركي، رجب طيب اردوغان. فارتقى ببلاده من دولة تابعة، تدور في فلك الغرب، إلى دولة أصبحت عضوا في نادي الكبار. فهو يعرف من أين تؤكل الكتف!
داود عمر داود – محلل سياسي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى