مغالطات مجتمعية

#مغالطات_مجتمعية

د. علي مفلح محاسنة

إنه لمن الوُكْد تنمية #المخزون #الفكري بالقراءة والاستنتاج وخوض غِمار جديدة في الأفكار والموضوعات دون التقوقع في موضوعات معينة أو حصرها بالاهتمامات المتعلقة بالتخصص الرئيس للقراء. ولما كان الأمر كذلك فعلم #المنطق من العلوم النيّرة التي ينبغي على القارئ أن يأخذ منها نصيبا ولو بطرف.
من الصفات التي يتمتع بها مجتمعنا العربي، #الحوار و #الجدل، ومن المعلوم أن الجميع يسعى إلى إقناع الآخرين بوجهته وبرأيه، ولذلك كان لا بد من الوقوف على هذه الظاهرة المجتمعيّة، وقفة توضح بعض الأبعاد النفسية، والثقافيّة لهذه الظاهرة.
ولمّا كان الحوار هو أساس عملية التواصل وهو أساس التعبير عن الذات فلا بد للمحاور من أدلّة يتكئ عليها لتعضد وجهة نظره، ولا غرابة إن قلت لكم أن الأدلة التي نسوقها ونعتمد عليها ليست إلا نوعا من المغالطات دون أن نشعر أن هذه الأدلة هي مغالطات مؤطّرة ومقنّنة، ولها من المصطلحات ما يدل على أنواعها وطرق استخداماتها في المجالات كافة
وأعرض لذلك جانبا من #المغالطات المشهورة التي يستخدمها المتحاورون في النقاشات أنّى كانت ثقافتهم ووعيهم ومستواهم الأكاديمي والثقافي. من ذلك: مغالطة ” الاعتماد على الشعبية” أو على الأكثرية. تقوم فكرة هذه المغالطة على أن المتحاور يحاول إقناع الآخرين برأيه معتمدا على دليل قوي من وجهة نظره وهو أن الأكثرية تفعل ذلك أو أن رأي الأكثرية هو الصحيح وما شابه، نحو: يقول أحدهم القهوة عند المنتج (س) هي أفضل قهوة على الإطلاق، بحجة أن أكثر الشعب الأردني مثلا يشتري المنتج (س) .
وهنا نسأل: إلى أي مدى يمكن إقناع الآخرين بأن القهوة من المنتج (س) أفضل قهوة على الأساس المذكور؟ وهل يعني ذلك أن أنواع القهوة الأخرى أدنى مستوى من المنتج (س)
تقييم مغالطة الاعتماد على الأكثرية
فقولهم المنتج (س)أفضل قهوة على الإطلاق بحجة أن الأغلبية يشربها ويفضلها فيها نظر، من حيث إن المتحاور اعتمد على الأكثرية لإثبات حجته، فهو لم يقنع الآخرين بقهوة المنتج (س) من حيث جودتها ومكوناتها ورائحتها والصفات التي تجعلها تفوق أنواع القهوة الأخرى، ولم يعتمد على دراسات تثبت الفارق بينها وبين أنواع القهوة الأخرى، ولم يعتمد على آراء الخبراء فيها، بل لجأ إلى نظام الأغلبية أو الأكثرية. وإذا ما دققنا في هذه المغالطة فينبغي إعادة النظر فيها كدليل إثبات، ذلك أن الفرد الواعي لا تنطوي عليه مثل هذه المغالطات لأن عقله واسع ودقيق في فهم المعاني، نتيجة تبحره في الثقافات أو نتيجة خبرته في موازنة الأشياء. وإذا ما أردنا أن نحكم على هذه المغالطة فهي دون شك ليست دليلا مقنعا إلا لمن ينظرون إلى الأمور بسطحية دون تعمق.

وتزداد الأمور دهشة إن قال أحدهم إن شاي كرك في الإمارات أفضل من القهوة في المنتج (ص)، فتتعالى الأصوات هائجة: يا أخي هل تشبه شاي كرك بالمنتج (ص) لا يوجد مجال للمقارنة، فأكثر ذواقي المشروبات المهدئة يجمعون على أفضلية المنتج (ص). فأنت أخي المغالط إن اعتمدت على مبدأ الأكثرية فإن حجتك ستكون واهية وتسقط في الجولات الأولى في مسيرتك النقاشية؛ لأن الطرف الآخر سيقدم أدلة إقناعية قوية من مثل شاي كرك يحتوي على نسبة كافيين عالية تهدئ النفس وأن مكوناته تجعله يفوق قهوة المنتج (ص) كالشاي الأسود والحليب والهيل والزعفران والزنجبيل، وربما تضطر لأن تقدم أدلة أخرى توقعك في شرك محاورك وتجعل حجته تقوى على حجتك، كأن تقول له أن سعر القهوة في المنتج (ص) 25 درهما وسعر شاي كرك درهم واحد، حينئذ تقع في مغالطة أخرى يجري فيها ما جرى في مغالطة الاعتماد على الأكثرية من حيث إن السعر ليس بدليل كاف لتفضيل قهوة المنتج (ص) على شاي كرك.

ولتجنب مبدأ الأكثرية يمكنك الإقناع بأن القهوة في المنتج (ص) هي الأفضل كونها تحوي مكونات مركّزة تعدل المزاج وطعمها ذو أثر كبير وجودتها تفوق المشروبات الأخرى وأن شاربها يشعر بلذة وبراحة أعصاب لا يشعر بهما عند غيرها؛ فيقتنع الطرف الآخر بكلامك ويتفق معك مع حفاظه على ذوقه الخاص. أما أن تكون قهوة المنتج (ص) الأفضل لأن الأكثرية يفضلونها فهو دليل غير كافٍ للإقناع.
والأمثلة على مغالطة الاعتماد على الأكثرية أكثر من أن تحصى نحو: اغاني فيروز تسمع في الصباح بدليل أن الأكثرية تفعل ذلك، وأم كلثوم تسمع مساء لأن الذوق العام يفعل ذلك أيضا، وسيارة المرسيدس أفضل السيارات لأن أكثر المشاهير والأغنياء يفضلونها على غيرها، والمرشح (س) هو أقوى المرشحين لأن الأكثرية موجودة في مقرّه الانتخابي، وهلمّ جرا.
الأبعاد النفسية في الاعتماد على الأكثرية
هناك أبعاد نفسية منطوية وراء مغالطة الاعتماد على الأكثرية وهذه الأبعاد النفسية نلحظها من مستعمليها ومطبقيها، منها:
ضعف الشخصية
يحرص الشخص على أن يكون مع الركب ليقال عنه أنه سائر مع الذوق العام وأنه ما دام كذلك فهو راق وذوّاق وذو كاريزما ولا يتعرض لأي انتقاد أو انتقاص شأن من الآخرين.
إرضاء الآخرين
يظهر الشخص خاليا من أي فكر أو رأي ، فإرضاء الآخرين غايته وجلّ تفكيره
أساس طبقي
يعتقد بعض من يلجأون إلى الاعتماد على الأكثرية كأفضلية لشيء معين أنها تدل على مستوى طبقي راقٍ وأن مستواه الراقي لا يسمح له إلا أن يكون ضمن هذه الفئة
مكافأة شخصية
ينظر بعض الناس إلى الأمر على أنه من باب الاهتمام بالنفس ومكافأتها بين الفينة والأخرى، فتكون الدعاية الإعلامية والأكثرية ضالته في هذا الشأن.
سخافة
يلجأ بعضهم إليها لغايات التصوير، فتصور القهوة مثلا وتنشر على مواقع التواصل الاجتماعي وبعد ذلك تعطى لشخص آخر ليشربها.
انتقاص من الآخرين
ينتقد بعض الناس فكرة الاعتماد على الأكثرية لتفضيل شيء ما، فينتقصون من شأن الناس المصطفين أمام مقهى معين ( أو ما شابه ) ويطلقون عبارات الاستهزاء والازدراء من مثل: هل توزع القهوة مجانا على هؤلاء الناس؟ .
معرفة واستبصار
يعتمد بعضهم على الأكثرية لمعرفة المنتجات واستكشافها ومن ثم فله رؤيته الخاصة في قبولها أو رفضها.
تفكير ثاقب
لا يوجد هناك فرق عند بعضهم بين القهوة في المكان هذا أو ذاك، فالقهوة تشترى من أي مكان ما دامت مؤدية للغرض.

استقلالية التفكير والنظر إلى الأمور
إن الاعتماد على مبدأ الأكثرية منهجا إقناعيا قد يلغي استقلاليتك في النظر إلى الأمور وتمحيصها وربما يؤدي إلى اعتماده كنهج حياة فيؤثر في نظرتك للأمور وتصبح فردا سلبيا غير مفيد لمجتمعك وستصبح عرضة لموجات الأكثرية غثها وسمينها إذا نظرت الأشياء بهذه الطريقة من التفكير.

وهنا أقول أين عقلك أيها الفرد؟ أين تفكيرك؟ أين شخصيتك؟ أين ذوقك؟ وأين نهجك في الإبداع والارتقاء بمستواك وبمستوى العالم؟ ولتنظر إلى الأمور بعينك أنت بفكرك أنت ولا بأس أن تتماشى مع الركب ولكن بقناعة ووعي.

د. علي مفلح محاسنة
رئيس قسم اللغة العربية
أكاديمية ديار الخاصة / الفجيرة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى